كما هو مُتَوَقعٌ، لم تكن الهدنة التي أُبرمت بين تركيا وروسيا بخصوص وقف إطلاق النار في إدلب، حائلاً دون إراقة مزيد من دماء السوريين، تلك الهدنة التي جاءت على أعقاب زيارة بوتين إلى أنقرة، ولقائه الرئيس التركي أردوغان، إذ كان من المفترض أن تدخل حيّز التنفيذ فجر الأحد، الثاني عشر من كانون الثاني الجاري، إلّا أنّ مدفعية نظام الأسد وراجمات صواريخه لم تتوقف ولا ساعة عن استهداف معرة النعمان ومعرشورين ومعرشمسة، والعديد من بلدات وقرى ريف إدلب الجنوبي، وكان من المُتَوَقَّع أيضاً، أن تقوم طائرات بوتين والأسد بمعاودة استهداف مدن وبلدات مدينة إدلب، مُعزِّزةً قناعة الكثير من السوريين، بعدم جدوى أيّ هدنة يكون الروس طرفاً فيها، ليس هذا ضرباً من التشاؤم يجتاح النفوس، وليس نتيجة التأثر بالحرب النفسية التي يشيعها النظام بين الناس كما يدّعي البعض، بقدر ما هو استقصاء لاستراتيجية الروس الرامية إلى تمكين نظام الأسد من السيطرة التامة على كامل الجغرافية السورية، في موازاة حراك سياسي إقليمي لم يكن في يوم من الأيام، سوى استثمار للوقت وتغطية لما يمارسه بوتين ونظام الأسد من إجرام.
وعلى النقيض مما كان يشيعه بعض الموهومين في الهدن والوعود الروسية، فإن مجمل المعطيات الميدانية كانت تحيل بوضوح إلى تكريس اليقين باستمرار العدوان، بل بمواجهة أشكال أخرى من العدوان يمكن أن يقوم بها الأسد وحلفاؤه، ولعلّ أبرز تلك المعطيات هي الحشود العسكرية التي زجّ بها النظام تجاه ريفي حلب الغربي والجنوبي، تحضيراً لمهاجمة إدلب من أكثر من محور، ولتشتيت جهود الفصائل المقاتلة من خلال تعدّد الجبهات، موازاةً مع قيام طيران نظام الأسد بإلقاء منشورات ورقية على المواطنين يطلب منهم النزوح من مدنهم وبلداتهم وقراهم، نحو مناطق سيطرته، عبرَ ممرّات يدّعي أنها ستكون آمنة (الهبيط – أبو ظهور – الحاضر)، الأمر الذي يعيد إلى الأذهان السيناريو الإجرامي ذاته الذي اتبعه الروس في حلب أواخر العام 2016 .
العدوان الجوّي الذي قامت به طائرات الأسد وبوتين يوم الأربعاء، في الرابع عشر من كانون الجاري، من خلال استهداف أكثر من عشرين بلدة وقرية، وكان أبرزها مركز مدينة إدلب، مُخلِّفاً مجزرة مروّعة في (سوق الهال) راح ضحيتها عشرون مواطناً مدنياً، وثمانون جريحاً، موازاةً مع استهداف مدينة أريحا، إنما يأتي تأكيداً لمسعى بوتين الرامي إلى حرق الأرض، ثم انتزاعها، بغض النظر عن مبلغ الإجرام الموازي لهذا المسعى.
لقد تزامنت المجازر الروسية الأسدية في إدلب وأريحا يوم الأربعاء الفائت، مع فشل اللقاء الذي انعقد في موسكو بين طرفي النزاع الليبي – السراج وحفتر – حول التوقيع على هدنة تُلزم الطرفين بوقف القتال، وتمهّد للدخول في مفاوضات سياسية، الأمر الذي أوحى للكثير بترابط المسألتين، ليبيا وإدلب، وما عزّز الظن لدى أصحاب هذا الاتجاه هو أن لقاء – بوتين أردوغان – في أنقرة قد تركّز حول هاتين المسألتين بقوّة، إذ كان يبحث بوتين – عبر الشريك التركي – عن الحصول على دور فاعل في ليبيا – ممثّلاً بحفتر – مقابل الموافقة على هدنة في إدلب، إلّا أن مغادرة الجنرال خليفة حفتر موسكو، دون موافقته على هدنة مع خصمه فايز السرّاج، المدعوم من أنقرة، قد ألغى أي التزام روسي حيال إدلب. وسواءٌ أكان هذا الربط بين ما يجري في ليبيا وإدلب صحيحاً أم باطلاً، فإنه لن يُحْدثَ أي نتائج مغايرة لما هو قائم، وما هو مُتَوَقعٌ في المستقبل القريب حيال إدلب، لأسباب عدّة، أهمها اثنان، الأول: إن استمرار العدوان على إدلب، وسعي الروس لتمكين نظام الأسد من السيطرة عليها، لم يكن مقروناً بنشوء النزاع الراهن في ليبيا، بل كان استمراراً لنهج الروس حيال ما سُمّي بمناطق خفض التصعيد، والتي انتهت ثلاث منها إلى سيطرة نظام الأسد، فيما يحاول بوتين الإجهاز على رابعتها إدلب، بل لعلّه من المؤكّد، أنّ افتراض حصول هدنة أو أي حل للأزمة في ليبيا، لن يثني بوتين – بكل الأحوال – عن مسعاه تجاه إدلب.
الثاني: ليس بمقدور بوتين الإمساك بقوة، بمفاصل الأزمة في ليبيا، بل يمكن الذهاب إلى أن موسكو جاءت متأخرةً، لإدراكها بأن خصومها الغربيين سبقوها إلى طرابلس منذ الإطاحة بالقذافي، وهي إذ تبحث اليوم عن موطئ قدم، فإنها لا تملك الكثير من أوراق القوة، ولعلّ أهمّ ما تمتلكه من مؤثرات ميدانية بالنسبة إلى خليفة حفتر هي (مرتزقة فاغنر). بينما نجد في موازاة الموقف الروسي الداعم لحفتر، مواقف أخرى، ربما كانت أكثر قوة وحضوراً، وأعني الإمارات ومصر، كامتداد لمحورين متصارعين – قطري تركي – سعودي إماراتي مصري – ولعل التداعيات السلبية لصراع هذين المحورين المتصارعين بدأت آثارها واضحة المعالم في سورية أولاً، ومن ثم ليبيا.
على أية حال، إن تفاقم صراع المصالح الإقليمية والدولية، وامتدادها إلى خارج سوريا، من خلال الأطراف المتصارعة ذاتها، إنما ينعكس – دون أدنى ريب – انعكاساً مباشراً على قضية السوريين، وبخاصة على إدلب، بل يسهم في تعزيز مأساتهم التي باتت بمنأى عن أي صحوة ضمير من المجتمع الدولي المنهمك بمصالحه، بل ربما يغدو الخطر الناجم عن احتراب تلك المصالح أكثر فداحة، حين يتداخل مع تداعيات محلّية لا تقل خطورة عن نظيرتها الخارجية، لعلّ أهمّها وجود كيانات عسكرية مقاتلة لا رأس لها، أعني افتقارها لقيادة عسكرية وسياسية حقيقية موحّدة، فضلاً عن افتقادها لقرارها الوطني، وفي ذلك الافتقاد، لدى العسكر والساسة معاً، يكمن الجانب الأكبر من مشكلة السوريين.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت