مراد عبد الجليل – السورية.نت
خلال الشهرين الماضيين، شهدت الساحة السورية تحولاً دراماتيكياً، واستراتيجية جديدة تتبعها إسرائيل مع إيران، تمثلت في زيادة عمليات اغتيال قادة “الحرس الثوري” الإيراني في سورية، الذين تطلق عليهم طهران لقب “المستشارين”.
هذا التحول من استهداف مستودعات الأسلحة والشحنات العسكرية، التي كانت في طريقها سابقاً إلى حزب الله في لبنان، إلى الاغتيال المباشر للقادة، يشير إلى تغيير جوهري في تكتيكات واستراتيجيات تل أبيب، حيث انتقلت من “النهج الدفاعي” إلى “الهجومي”، وفقاً لمحللين.
ويكشف استهداف القادة الإيرانيين، في أماكن توصف بأنها راقية في سورية، عن وجود خروقات أمنية كبيرة، ما يطرح تساؤلات حول كيفية حصول إسرائيل على المعلومات الاستخباراتية الخاصة بتواجد هؤلاء القادة، ومدى مسؤولية نظام الأسد عن ذلك.
وفتح اغتيال رضي موسوي في 24 ديسمبر/كانون الأول الماضي، الباب أمام إسرائيل لمرحلة جديدة في التعامل مع الوجود الإيراني في سورية.
وتبع اغتيال موسوي، الذي وصفته وسائل الإعلام الإيرانية بأنه “أعلى رتبة عسكرية” تُقتل في المنطقة، سلسلة من الاغتيالات، حيث أعلن “الحرس الثوري” في العشرين من الشهر الماضي مقتل أربعة ضباط إيرانيين جراء قصف إسرائيلي استهدف مبنى في منطقة المزة فيلات غرب دمشق.
وكان من بين القتلى ضابط استخبارات “فيلق القدس” في سورية، صادق أميد زاد، الملقب بـ”الحاج صادق” والذي كان برتبة عميد، ولسنوات كانت مسؤوليته الاستخباراتية ضمن “فيلق القدس” التابع لـ”الحرس الثوري” موجهة داخل سوريا.
أعقبه مقتل مستشار إيراني يدعى سعيد عليدادي جراء قصف نفذته إسرائيل على مواقع في منطقة السيدة زينب بريف دمشق، في الثاني من الشهر الحالي.
ولأول مرة، استهدفت غارات إسرائيلية مركز مدينة حمص، الأربعاء الماضي، حيث قصفت مبنى في شارع الحمرا خلف الملعب البلدي، مما يعكس تصعيداً في الأعمال العسكرية.
ووفقاً لما ذكره نوار شعبان، الباحث في مركز عمران للدراسات، لـ”السورية. نت”، فإن القصف استهدف اجتماعاً لشخصيات إيرانية، المتواجدة في المكان المستهدف منذ عامين.
ولم تعلن إيران عن أي قتلى في القصف، بينما نقلت وكالة “فرانس برس” عن مصدر مقرب من “حزب الله” اللبناني، أن مقاتلين اثنين قتلوا خلال الغارة الإسرائيلية على حمص.
إسرائيل تغير تكتيكها الهجومي
بعد اغتيال موسوي، صرح رئيس أركان قيادة الجبهة الشمالية السابق للجيش الإسرائيلي، آشر بن لولو، أن إسرائيل انتقلت “من الخط الدفاعي الذي تتخذه إلى خطوات هجومية”، واصفاً ذلك بـ”المهم”.
ويرى شعبان أن التغييرات التي جرت في المنطقة، كانت المحفز الأساسي لإسرائيل بتغير طريقة تعاملها مع أي خطر يهددها في المحيط.
واعتبر أنه بعد عملية “طوفان الأقصى” بدأت تل أبيب بشن غارات جوية في ثلاث مناطق، سورية ولبنان وغزة، بهدف إيصال رسالة بأنها لديها قدرة على ضرب عدة أهداف في أكثر من مكان بنفس التوقيت.
لكن بعد ظهور ما أطلق عليها “المقاومة الإسلامية في العراق” في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، والتي تضم ميليشيات مدعومة إيرانياً، وجدت إسرائيل فرصة لإثبات قوتها الاستخباراتية واغتيال القادة.
وحسب الباحث فإن إسرائيل كانت تتبع في السابق نهجاً يمكن وصفه بالدفاعي أكثر منه هجومياً، حيث كانت تقوم بالرد أو الضرب فقط عندما تشعر بوجود خطر مباشر على أمنها، لكن التحول الذي نشهده الآن يعكس تغييراً استراتيجياً نحو نهج أكثر هجومية.
وفي هذا السياق، لا تنتظر إسرائيل وقوع الخطر بشكل مباشر أو الشعور بالتهديد الفوري للرد، بل تسعى إلى التحرك استباقياً ضد ما تعتبره تهديدات محتملة في المستقبل، وبالتالي فإن الاجتماعات التي يمكن أن تشكل تهديداً مستقبلياً، أو التي يمكن أن تؤدي إلى تخطيط لعمليات ضد إسرائيل، أصبحت هدفاً للضربات الإسرائيلية.
وكانت الضربات الإسرائيلية قد اتخذت مساراً تصاعدياً في سورية، بعد الحرب التي بدأتها في قطاع غزة، رداً على هجوم حركة “حماس”، في السابع من أكتوبر الماضي.
ولم تقتصر الضربات على مواقع عسكرية على منطقة دون غيرها، إذ استهدفت ثكنات عسكرية في جنوب سورية لأكثر من مرة، بينما تعرض مطاري دمشق وحلب الدوليين للقصف لعدد من المرات.
من جانبه يرى الباحث المختص بالشؤون الإيرانية، محمود البازي، أن إسرائيل أدركت أن استهداف الشحنات لا يعني القدرة على تدمير البنية التحتية العسكرية للإيرانيين أو لـ “حزب الله” بل تعني تقليل حجم الضرر فقط.
وقال البازي لـ”السورية. نت” إن قواعد الاشتباك بين إيران وإسرائيل في سورية، كانت قائمة على تجنب الخسائر البشرية في صفوف الإيرانيين قدر الإمكان، وعدم تبني الضربات بشكل مباشر لمنح هامش مناورة للإيرانيين.
لكن بعد “طوفان الأقصى” منحت الفرصة لإسرائيل لتجربة رفع مستوى الاغتيالات خصوصاً بعد إدراكها بأن ما يسمى “محور المقاومة” غير راغب في الانخراط بحرب مفتوحة، لذلك جربت هذه الاستراتيجية أولاً في لبنان وعممتها إلى الأراضي السورية وبدأت بتوسيعها مع مرور الوقت.
وأشار البازي إلى أن تل أبيب تحاول القضاء على “الكوادر الميدانية الإيرانية القادرة على تهديد أمن إسرائيل وذلك بأقل الخسائر”.
وأرجع البازي توسيع هامش الاغتيالات الإسرائيلية إلى عدم وجود مساحات لإيران للرد على هذه الاغتيالات، لأنه “في السابق بعد كل عملية إسرائيلية لاغتيال قيادات في سورية تتوجه إيران للانتقام في مياه الخليج”.
لكن مياه الخليج الآن لم تعد مكاناً مناسباً بسبب دخول الحوثيين والأمريكان إلى خط المواجهة، ما دفع إيران للتوجه إلى استهداف ما أسمته مقر للموساد في أربيل وإدلب، وهذا يعني “لا انتقام مباشر من إسرائيل ويعني بالضرورة توسيع هامش الاغتيالات الإسرائيلية في سورية”.
بدورة اعتبر المحلل السياسي حكم أمهز، أن إسرائيل لجأت إلى استهداف “المستشارين” الإيرانيين في سورية، بعد الهزائم التي منيت بها في غزة، بهدف “إيهام الشعب الإسرائيلي بتحقيق إنجازات”.
وقال أمهز لـ”السورية. نت” إن “تل أبيب تريد تحويل المعركة إلى معركة إقليمية وتوسيعها وجر إيران إليها”.
وأضاف أن “العمليات الإسرائيلية ليست جديدة فمنذ عقود يغتالون قادة المقاومة”، مؤكداً أن “عمليات الاغتيال هي تكتيكية، ولا تحقق معادلات، ولا تحقق أهدافاً وضعها الإسرائيلي لنفسه”.
وأشار أمهز إلى أن إيران و”محور المقاومة” يحددون الوقت المناسب للدخول بالحرب، و”هم يقومون ما يجب عليهم في إطار دعم غزة من خلال عمليات الاسناد، وبالتالي لم يحققوا لإسرائيل الغرض التي تريده”.
كما اعتبر أن “عقل إيران بارد وليس انفعالي وارتجالي ويقوم على اللحظوية، وإنما يفكر بشكل دقيق وتحقيق الأهداف التي يريدها، أما الإسرائيلي يقوم بعملية اغتيال، لكن مباشرة يقوم الإيراني بتعيين بديل عن الشخصية التي تم اغتيالها”.
من الجبهات إلى الفيلات!
ورغم وجود مناطق في سورية توصف بأنها “مقاطعات إيرانية”، وخاصة منطقة السيدة زينب جنوب دمشق التي تسيطر عليها ميليشيات مدعومة من طهران، إلا أن القصف الإسرائيلي كشف عن تواجد القادة الإيرانيين في أحياء راقية في سورية.
وتعتبر منطقة المزة فيلات في دمشق، التي تم اغتيال المستشارين الإيرانيين فيها، واحدة من أرقى المناطق في دمشق، وتستضيف عدداً من السفارات والمقرات الدبلوماسية، إضافة إلى سكن العديد من الشخصيات الهامة والمسؤولين الحكوميين السوريين والأجانب.
كما أنها تعتبر منطقة استراتيجية نظراً لموقعها القريب من مراكز القوى والقرار في دمشق، مثل القصر الجمهوري.
أما شارع الحمرا في حمص، الذي استهدفته تل أبيب الأربعاء الماضي، يعتبر من الأحياء الهامة والمعروفة في المدينة، ويشتهر بكونه منطقة تجارية نشطة وحيوية تضم مجموعة متنوعة من المحلات التجارية والمطاعم والمقاهي.
وحسب الباحث نوار شعبان فإن شارع الحمرا يعتبر من الأحياء الراقية في المنطقة، ويقع بالقرب من مقر أمن الدولة التابع لنظام الأسد ومنزل المحافظ.
ويؤكد شعبان أن القادة الإيرانيين المهمين، يتوجهون إلى شراء واستئجار منازل في أماكن راقية، بعيداً عن المناطق المعروفة أنها إيرانية، بهدف “الاختباء ضمن شرائح مجتمعية مرموقة”.
وأرجع الضابط السابق في شعبة الأمن السياسي، منير الحريري، إقامة القادة الإيرانيين في الأماكن الراقية إلى “الهاجس الأمني”.
واعتبر في حديث لـ”السورية. نت”، أن هذه الأحياء الراقية “أكثر حماية من الناحية الأمنية وأقل استهداف بسبب تواجد سفارات فيها”، إضافة إلى وجود شخصيات قيادية من النظام في هذه المناطق، ما يجعلها “مربعات أمنية داخل الأحياء”.
أما الباحث المختص بالشؤون الإيرانية، محمود البازي، يرى أن القيادات العليا الإيرانية تتواجد في المناطق السكنية الراقية، لأن المناطق المكتظة بالسكان مثل السيدة زينب يجعل من السهل مراقبة التحركات والتسريبات.
“بينما يميل هؤلاء القادة إلى اختيار مناطق سكن كبار الضباط والمسؤولين السوريين، لتوفر الرقابة الأمنية والسيطرة الاستخباراتية النسبية في هذه المناطق”.
“جواسيس إسرائيل في سورية”؟
وفتح قدرة إسرائيل للوصول إلى القادة الإيرانيين ضمن الأحياء الراقية، باب الحديث عن اختراق أمني كبير من جانب أجهزة النظام الأمنية، خاصة في ظل دعوات إيرانية لاعتقال “جواسيس إسرائيل في سورية”.
وعقب اغتيال موسوي، اتهم عضو الجنة الأمنية في البرلمان الإيراني، إسماعيل كوثري، جهات سورية بالتخابر مع إسرائيل، قائلاً “لا بد من القبض على العملاء الجواسيس في دمشق”.
وكانت وكالة “رويترز” نقلت عن مصادر أمنية، مطلع الشهر الحالي، قولها إن “الحرس الثوري” أثار مخاوفه مع النظام السوري، من أن تسرب المعلومات من داخل قوات الأمن السورية لعب دوراً في الضربات الإسرائيلية القاتلة الأخيرة.
وقال مصدر للوكالة مطلع على العمليات الإيرانية في سورية إن الضربات الإسرائيلية الدقيقة “دفعت الحرس الثوري إلى نقل مواقع العمليات ومساكن الضباط، وسط مخاوف من حدوث خرق استخباراتي”.
الضابط السابق في شعبة الأمن السياسي، منير الحريري، أكد أن هناك تسريب من المعلومات لإسرائيل بعلم نظام الأسد.
ويؤكد الحريري أن نظام الأسد قادر على ضبط الخروقات الأمنية بالنسبة للضباط الكبار، لكن على مستوى الضباط الصغار، أو المرتبطين باستخبارات دول أخرى يصعب كشفهم.
من جانبه اعتبر شعبان أن القدرات الاستخباراتية الإسرائيلية قوية بما يكفي لتجميع معلومات حاسمة دون الحاجة المباشرة إلى التعاون مع نظام الأسد.
ويوضح شعبان أن هناك عناصر داخل النظام، قد تسعى للتقرب من إسرائيل أو حماية مصالحها الخاصة من خلال تسريب المعلومات.
ويشير إلى أن الخروقات الأمنية التي قد تحدث لا تنبع بالضرورة من تقصير في الأجهزة الأمنية للنظام، بل قد تكون نتيجة تصرفات فردية من أشخاص ضمن النظام أو المتعاونين معه، مما يصعب على النظام ضبطها أو السيطرة عليها بشكل كامل.
ويستبعد الباحث أن تقوم طهران بفرض تشديد أمني مباشر على أجهزة النظام، نظراً للعلاقات المتوترة أو غير الجيدة في الأساس بين الجانبين، متوقعاً أن يكون هناك تركيز أكبر على تعزيز الأمن ضمن الميليشيات المحلية الموالية لإيران في سورية، بهدف حماية مصالحها وتعزيز قدراتها في مواجهة التحديات الأمنية والاستخباراتية.
من جانبه وصف المحلل السياسي حكم أمهز، أجهزة نظام الأسد الأمنية بـ”المتماسكة”، معتبراً أنه لا يوجد دولة في العالم تخلو من الجواسيس أو الاختراق من قبل أشخاص.
وأكد أمهز أن إسرائيل تصل إلى الشخصية المراد استهدافها من خلال عدة طرق، منها الاعتماد على جواسيس أفراد، إضافة إلى وجود أجهزة تقنية متطورة وملاحقة البصمة الصوتية والهواتف للشخص.
وتوقع أمهز أن يكون هناك اغتيالات مقبلة، كون الحرب مع إسرائيل هي “حرب مفتوحة” ويتوقع منها كل شيء ليس في سورية فحسب وإنما في المنطقة ككل.
بدوره توقع البازي أن تقوم طهران بـ”دمج الجماعات غير المحلية في المؤسسات الحكومية، وتوسيع حلقات الجماعات المحلية، في محاولة تخفيف عمليات الاغتيال حيث يقتصر دورها على الرقابة والتأهيل إلى حين انتهاء الحرب في غزة وتكشف مستقبل المواجهات”.