يصف الأردن عمليات التهريب واسعة النطاق، التي تجري على حدوده الشمالية مع سوريا، بأنها “حرب مخدرات، ساحاتها تمتد من البقاع الغربي مروراً بالقلمون وبادية حمص وانتهاء بجنوب سوريا، أما أطرافها، فتشمل ميليشيات سورية ولبنانية محسوبة على إيران، وبمشاركة “مراكز قوى” في دمشق.
وفقاً للرواية الأردنية، فإن ما يجري يتخطى كونه عمليات تهريب معتادة في المناطق الحدودية، بل هي “حرب مكتملة الأركان”، يتحرك خلالها “المهربون” وحُماتهم، على صورة تشكيلات عسكرية، مدججة بالسلاح، ومن ضمن أرتال قتالية منظمة، وتشتمل على المخدرات، “الكبتاغون” خصوصاً، إلى جانب الأسلحة، وأن وجهتها الرئيسة هي المملكة العربية السعودية ودول الخليج، في حين، يتحول الأردن يوماً إثر آخر، من دولة ممر “ترانزيت” للمخدرات، إلى دولة مقر، أو وجهة نهائية لقسم متزايد منها.
ومنذ أن حّذر الملك في واحد من أحدث تصريحاته، من “فراغ روسي” في جنوب سورية على خلفية الأزمة الأوكرانية، وسعي ميليشيات إيرانية لملئه، لم يبق مسؤول سياسي أو عسكري ذي صلة، إلا وأدلى بدلوه في هذا المجال، فيما الصحافة ووسائل الإعلام، تواصل الحديث عن هذا “التهديد” الذي بات مقلقاً لصناع القرار والرأي العام، سواء بسواء.
الأردن لم يتهم دمشق ونظام الرئيس الأسد رسمياً بالمسؤولية عن هذه الحرب، لكن الحديث يدور عن مليشيات مذهبية مدعومة من إيران ، ويشمل مروحة واسعة منها في سوريا، وصولاً إلى حزب الله في لبنان، الذي يحتفظ بنفوذ مُقرر في البقاع اللبناني، وهي المنطقة التي يُعتقد بأنها “المنبع” الرئيس لتجارة السموم هذه، فيما لا تستبعد المصادر الأردن، أن تكون أقيمت مشاغل لإنتاج المواد المخدرة على الأرض السورية، تعمل لصالح هذه الميليشيات وبحمايتها، في حين تتجه أصابع الاتهام إلى الأخ الشقيق للرئيس السوري، ماهر الأسد وفرقته الرابعة، التي تنتشر على مقربة من الحدود الطويلة (375 كم) مع الأردن.
الصورة الأكبر
اندلاع “حرب المخدرات” على الأردن، يأتي في لحظة سياسية إقليمية حرجة، تتميز بتعثر مناخات الانفراج التي هيمنت على الإقليم قبل عدة أشهر، فمن جهة أولى؛ يبدو مسار فيينا حول برنامج إيران النووي، متعثراً، وفرص نجاحه ضعيفة للغاية على أقل تقدير، وإيران التي ترزح لـ”أقصى العقوبات”، تجد صعوبة في تمويل حلفائها والمحسوبين عليها، الأمر الذي دفع مراقبين لعدم استبعاد سيناريو لجوء هذه المنظمات إلى “تجارة المخدرات” لتعويض عجوزاتها المالية، وتوفير التمويل المناسب لعشرات ألوف المجندين تحت السلاح.
ومن جهة ثانية؛ فإن مناخات التقارب الأردني – السوري، التي انتعشت في أعقاب إعلان الأردن عن “مقاربة جديدة” حيال سوريا، عرضها الملك على الرئيس الأمريكي جو بايدن في قمتهما الأولى قبل عام، تبدو عرضة للتبديد، ومعها، مشروع “كريدور الطاقة” لنقل الغاز المصري والكهرباء الأردنية، عبر سوريا إلى لبنان، الذي يعاني بدوره قيود “قانون قيصر” الثقيلة.
ومن جهة ثالثة؛ فإن من تداعيات الاجتياح الروسي لأوكرانيا، انشغال موسكو بالحرب الكونية متعددة الجبهات التي تشن عليها، وتتالي التقارير التي تتحدث عن إقدام موسكو على سحب قواتها المنتشرة في جنوب سوريا، معرضة حدوده الشمالية لخيار “الفراغ”.
رواية دمشق وحلفائها
دمشق الرسمية، تلتزم الصمت، وكذا حزب الله، والحديث بهذا الشأن متروك لوسائل إعلام هذه الأطراف، والناطقين غير الرسميين بألسنتهم، فماذا يقولون.
تتهم رواية هذا الفريق الأردن بـ”افتعال” هذه المشكلة والمبالغة في تصوير حجمها، ولأسباب سياسية غالباً، ومن ضمن تنسيق متعدد الأطراف، يشمل من ضمن ما يشمل، الولايات المتحدة وإسرائيل، دمشق أو أي من حلفائها، لا ينكرون وجود تهريب، ولكنهم يضعونه في السياق والحجم المُعتادين، الأمر الذي تنفيه عمان، وتدلل عليه بالمؤتمرات الصحفية والبلاغات التي تصدر بصورة شبه يومية، وتعرض لأعداد عمليات التعرض للمهربين، والإصابات في صفوفهم، وكميات المخدرات والأسلحة المصادرة، سيما بعد أن أعلن الأردن، رسمياً، عن تغيير قواعد الاشتباك مع المهربين، وإعطاء الأوامر لوحدات الجيش بالتصدي لهم مباشرة، بعد مقتل عدد من الجنود والضباط الأردنية في عمليات متفرقة جرت في الأشهر الأخيرة.
أما الأهداف السياسية التي تلمح لها دمشق وحلفائها، فتتلخص في ثلاثة: الأول؛ رغبة الأردن وحلفائه، في إبراز التهديد والدور المزعزع للاستقرار الذي يلعبه الحرس الثوري و”فيلق القدس” المشرف فعلياً على هذه الميليشيات، في مسعى لحث إدارة بايدن، والضغط عليها، من أجل إبقائه مدرجاً على لوائحها للمنظمات الإرهابية….والهدف الثاني؛ حث واشنطن على إبقاء وتعزيز وجودها العسكري في سوريا، شمالاً وفي الجنوب “قاعدة التنف”، حتى لا يُضاف إلى “الفراغ الروسي”، فراغاً أمريكيا.
أما الهدف الثالث؛ فممارسة الضغط على روسيا في سوريا، وربما فتح جبهة جديدة على الكرملين، من خلال عزل واستنزاف أهم حليف لها شرق المتوسط: سوريا…وهنا يجري الربط بين تصاعد التوتر على الحدود الجنوبية لسوريا، والترويج لعودة “غرفة الموك”، تزامناً مع تهديدات أنقرة بتنفيذ عملية اجتياح خامسة للشمال السوري، لاستكمال مشروع المنطقة الآمنة بعمق 30 كم، وبالتوازي مع إعادة نشر القوات الأمريكية في شمال سوريا الشرقي، وعودتها لقواعد سبق وأن أخلتها قبل أزيد من عامين.
رواية دمشق وحلفائها، تضع “حرب المخدرات” في سياق إقليمي – دولي أوسع، مرتبط بالتوتر بين واشنطن وموسكو على خلفية الأزمة الأوكرانية، وواشنطن وطهران على خلفية تعثر مسار فيينا النووي.
الرواية من موسكو:
موسكو تتابع عن كثب التصريحات الأردنية، وتواكب مخاوف عمان التي ما انفكت تعبر عنها في كل مناسبة ومحفل … لكن لموسكو روايتها الخاصة كذلك، وتقول: (1) أن زيارة كانت مجدولة لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى عمان قبل الحرب على أوكرانيا، كان مقرراً لها أن تبحث في هذا الملف تفصيلاً إلى جانب ملفات أخرى ذات اهتمام مشترك، تأجلت أول مرة بطلب روسي، لكن مصادر دبلوماسية روسية تقول إن الخارجية الروسية، طلبت من نظيرتها الأردنية مرتين على الأقل، تحديد موعد جديد لزيارة لافروف لعمان، وأن الأخيرة تمنعت عن الاستجابة، لأسباب تقول عمان، أنها عائدة لجدول أعمالها المزدحم، ولا تستبعد موسكو أن تكون الأسباب سياسية، على خلفية “الحصار الغربي” على روسيا، ورغبة واشنطن في حشد حلفائها وراءها في حربها على الكرملين.
(2) المصادر الروسية تعتقد أن أطرافاً لبنانية (حزب الله) وميليشيات مذهبية في سوريا، قد تكون ضالعة في حرب المخدرات على الأردن، ولا تستبعد تورط “الفرقة الرابعة” بقيادة ماهر الأسد في هذه الحرب، لكنها تستبعد أن يكون النظام في دمشق طرفاً فيها، وترد المسألة برمتها إلى عدم قدرة النظام حتى اللحظة، على بسط سيطرةٍ محكمة على جميع أراضيه.
(3) موسكو تسخر من الأنباء التي تتحدث عن “سحب قواتها من سوريا” لحاجتها لها في الحرب على أوكرانيا، وتقول: إن تعداد هذه القوات لا يزيد عن ثلاثة آلاف ضابط وجندي، وأنهم بفرض سحبهم جميعا، لن يحدثوا فرقاً على جبهات ينخرط فيها ما لا يقل عن مئتي ألف ضابط وجندي من الجانب الروسي وحده، وأن لروسيا حسابات ومصالح في سوريا، تمنعها من التفكير بالانسحاب، وأن الوجود العسكري الروسي في جنوب سوريا، لم يتعد في يوم من الأيام، “وحدات الشرطة العسكرية”.
(4) المصادر الروسية تقول إن عمليات التهريب العابرة للحدود، تفترض وجود شبكات عابرة للحدود كذلك، لضمان “سلاسل التوريد”، وأن الكشف عن عناصر هذه الشبكة في دول المنبع: سوريا ولبنان، لا يغني عن كشف أعوانهم ووكلائهم في دول المصب: الأردن والخليج، وأن ثمة القليل الذي يجري الكشف عنه في هذا المجال، وهذا يعقد المشكلة والمعالجة.
خلاصة القول:
“حرب المخدرات” تطور جديد في علاقات الأردن مع جارته الشمالية، يلقي بظلال كثيفة على هذه العلاقات، ويبدد الرهانات والآمال التي عقدها البعض على عوائدها على الاقتصاد الأردني المأزوم، وليس مستبعداً أن يقود إلى تداعيات لا تحمد عقباها، من نوع العودة إلى تكتيك “وسائد الارتكاز” الذي اعتمده الأردن على حدوده الشمالية، لدرء خطر التنظيمات الإرهابية بالاعتماد على قوات غير نظامية، وميليشيات ليست محسوبة على داعش أو القاعدة أو تلك المذهبية المحسوبة على إيران.
وقد يمتد التوتر في العلاقات الأردنية – السورية، إلى توتر في علاقات عمان بطهران، وهي علاقات شبه مجمدة أصلاً، ما يُبقي الباب مفتوحاً أمام سيناريوهات خطرة على الحدود الشرقية مع العراق، حيث ترابط ميليشيات عراقية محسوبة على إيران على مقربة من المثلث الحدودي الأردني – السوري – العراقي، وكان سبق للملك عبد الله الثاني أن كشف في حديث صحفي عن استهداف العمق الأردني بطائرات مسيّرة من قبل ميليشيات عراقية محسوبة على إيران، الأمر الذي ردته مصادر هذه الميليشيات إلى استخدام القوات الأمريكية لقواعد في الأردن لاستهدافها في العمق العراقي، وهذا تطور قد يولد حالة من “انعدام اليقين” على علاقات الأردن بالعراق، التي تعوّل عليها حكومتا البلدين كثيراً، وربما لهذا السبب، خرج موضوع “الدرونز المجهولة” من التداول العلني، سياسياً وإعلامياً.
وسينظر الأردن للكيفية التي ستتعامل بها روسيا مع تهديد “حرب المخدرات” بوصفها واحدة من المعايير الحاكمة للعلاقات الثنائية بين البلدين، وهي العلاقات التي قد لا تجتاز “القطوع الأوكراني” بسلاسة وسلام، والحقيقة أن الملك أشار في حديث له مؤخراً، عن دور روسي مُعزز للاستقرار في جنوب سوريا، ورغم أنه لم يُضمّن حديثه مزيداً من التفاصيل، إلا أن المراقبين في عمان، ما زالوا يذكرون أن التعاون الأردني – الروسي في جنوب سوريا، مكّن الأردن من تفكيك “مخيم الركبان” والهبوط بأعداد ساكنيه من أزيد من 80 ألف إلى أقل من خمسة ألاف لاجئ، غالبيتهم كما تقول المصادر الأردنية، من عوائل داعش التي تحتضن “خلايا نائمة” للتنظيم الإرهابي، والأردن بالتعاون مع روسيا تمكن من تمهيد الطريق أمنياً لـ”كريدور الطاقة” في درعا وجوارها، وأبعد الفرقة الرابعة عن هذه المنطقة، ولعبت موسكو دور الوسيط مع قوى الأمر الواقع في الجنوب السوري، ومع دمشق ذاتها، قبل أن تُفتح قنوات الاتصال المباشر، رفيع المستوى بين البلدين خلال السنة الأخيرة.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت