حافظت سورية على طابعها الاجتماعي المتجانس ذي الطبقة المتوسطة العريضة حتى عام 1963، وُجدت خلالها أحزابٌ متنوعة؛ ليبرالية واشتراكية وإسلامية وشيوعية، وامتلكت برلمانًا يتمثل فيه الجميع وتطول يد القانون جميع مستويات الحكم رؤساء ووزراء وقادة؛ فالتاريخ يذكر حادثة رئيس البرلمان الدكتور ناظم قدسي الذي ترك كرسي رئاسة البرلمان وطلب رفع الحصانة عنه والتحقيق بما ذكره الصحفي أحمد العسة في جريدة الرأي بتغيير مخطط مدينة حلب البلدي لصالح عقاراته، وأنه لن يعود إلى مقعد الرئاسة حتى تنجلي الحقيقة وعندما تبين للجميع عدم صحة ذلك تنازل عن حقه تجاه الصحفي.
حادثة القدسي نموذج لحالات متكررة تؤكد أن سورية ما قبل البعث وحكم عائلة الأسد كانت تمتلك قدرًا من الشفافية وسلطة القانون يتباهى به السوريون أينما حلوا.
انقلبت الأمور رأسا على عقب وبشكل دراماتيكي في سورية بعد أن سيطر الأسد الأب على الحكم وبدأ الفساد يتغلغل في كل مفاصل الحكم، وأصبحت ملفات الفساد أكثر من أن تحتاج إلى إثبات، لاحقاً وصلت الأمور في عهد الأسد الابن إلى مستوى غير مسبوق ولا يقارن إلا في الأنظمة الشمولية شديدة القمع مثل كوريا الشمالية وليبيا في عهد القذافي، فقد قام بتوزيع كل مفاصل الاقتصاد من اتصالات ونفط ومقاولات وصناعة وسياحة على الأقارب من أولاد الخال والعم والعمة وأخيرًا أولاد خالة الزوجة.
أما إذا انتقلنا إلى الواقع السوري الذي أصبح معقدًا لدرجة عجز معظم المحللين الاستراتيجيين عن توصيفه وإيجاد الحلول له في ظل الاستقطاب الدولي الشديد ونزاع القوى الإقليمية، فالمتابع للمشهد السوري خلال الأسابيع الماضية يلاحظ أن روسيا الحليف الأول للنظام والذي أنقذه من السقوط كما ذكر وزير الخارجية الروسي لافروف؛ تقوم وسائل إعلامها بتسريبات غير مسبوقة من دولة استخدمت حق النقض ثلاث عشرة مرة في وجه مجلس الأمن لصالح حماية نظام الأسد من أية عقوبات، فقد بدأت وسائل الإعلام الروسية سلسلة تسريبات تستهدف رأس السلطة وذكرت أنه غير قادر على ضبط الأمور خلال المرحلة القادمة بالإضافة إلى ضعف إدارته، وبدأت بتسريب تأثير زوجته أسماء وبذخها الشديد وأنه اشترى لها لوحة بثلاثين مليون دولار، لاحقا كانت زيارة ظريف الفيزيائية في وقت استعاضت كل الدول والرؤساء عن ذلك من خلال اجتماعات افتراضية مما يدل على حدث جلل يتطلب ذلك.
لكن المشهد تطور بشكل سريع فقد فوجئ السوريون خلال الأيام الماضية باستخدام أحد أعمدة نظام الحكم في سورية رامي مخلوف، مسؤول الامبراطورية المالية العائدة لعائلة الأسد داخل سورية وخارجها وأول من ذكره الثوار كرمز للفساد وصاحب المقولة التاريخية أمن إسرائيل من أمن سورية باستخدام منصات التواصل الاجتماعي بشكل متكرر للتواصل مع ابن عمته ورأس السلطة مما يدل على انسداد جميع وسائل التواصل، وعلى أن الهوة اتسعت فيما بينهم لدرجة لم يعد هناك طريقة أخرى سوى تلك الطريقة التي تكشف الصراع للجميع وتجعل الموضوع قضية رأي عام.
فالفيديو الأخير أكد على صراع عميق داخل البيت الداخلي للحكم لم يعد بالإمكان كتمه؛ لقد كشف عن المستور المافيوي لسلطة الحكم الأسدية وفسادهم، فرامي مخلوف استخدم خلال مرحلة صعوده إلى عالم المليارديرية كل وسائل السطوة والضغط والابتزاز لرجال الأعمال التقليديين للتخلي عن تجاراتهم وأعمال توصلوا إليها عبر كد وجهد مثل وكالة شركة مرسيدس العائدة لعائلة سنقر ومصاعد شيندلر السويسرية العائدة لمأمون السواح.
إن علاقات رامي مخلوف العائلية مهمة؛ فخاله غسان مهنا شريك نزار الأسعد وواجهة نظام الأسد النفطية عبر شركة ليد للتعهدات والمقاولات، وعمه والد زوجته وليد عثمان حليف رفعت الأسد السابق والذي انقلب عليه، وكان محافظًا لمهد الثورة درعا خلال التسعينيات وسفيرهم في رومانيا منذ ثمانية عشر عاما.
أيضا لدى العائلات الكبرى في الطائفة شعور كامن بتقزيم مزمن من عائلة الأسد لدورهم مثل عائلات خيربك والهواش والأحمد وجديد وعمران والخير.
تناول رامي مخلوف في الفيديو الثاني المؤسسة الأمنية مما يدل على رغبة واضحة في تحييدهم على أقل تقدير؛ فهو يعلم مدى أهميتهم في أي صراع قادم؛ فشقيقه حافظ كان مسؤولاً أمنياً رفيعاً استبعده ماهر الأسد عام 2014 بحجة تحميله مسؤولية وصول الثوار إلى منطقة العباسيين داخل مدينة دمشق، فعملية تحييدهم ليست سهلة لكن حجم المعلومات التي يمتلكها عنهم ليست بسيطة والأرجح أنها أشد خطورة من ملفات قيصر؛ لذلك هو يتعامل معهم وفق قانون العصا والجزرة؛ فبعد أن لوّح بقمعهم لموظفيه الموالين للنظام ذكّرهم بأنه أكبر داعم وراعٍ لهم منذ بداية الثورة، من ثم يتحدث عن الدستور وهنا يقع بمغالطات كثيرة من خلال إشارته بإنفراد الموالين بالحقوق وعدم أحقية المعارضين لها وعملية التداخل بين عالم المال والأعمال مع المؤسسة الأمنية القمعية ومفهوم الدولة الفرد، فآلية معالجته للقضية تؤكد غيابَ مفهوم دولة المؤسسات لدى السلطة الحاكمة.
يحاول أيضا رامي في فيديوهاته استقطاب الطبقة الفقيرة داخل الطائفة العلوية التي كانت الوقود الذي حمى النظام طيلة المرحلة السابقة، فيذكرها بخدمات مؤسساته الإنسانية والدعم الذي قدّمه لهم طيلة المرحلة السابقة، فمن الأرجح أن هؤلاء سيكونون بيضة القبان في الصراع العائلي بعد أن استمالَ المافيا الروسية والتي تقوم ببث روايته على قنواتها الرسمية، فروسيا ترغب بإضعاف عائلة الأسد بشكل أكبر وهو ما كان واضحا في كل لقاءات الرئيس بوتين مع بشار حتى تقرر في النهاية ما هو السعر المناسب للتخلي عنهم.
إن الطائفة العلوية أمام فرصة تاريخية بعد أن اتضحت لها الصورة الحقيقية للحكم وفساده واستغلاله لهم منذ عام ١٩٧٠ فهو لم يوزع عليهم إلا الفتات واستخدم تسهيل انضمامهم إلى المؤسسة العسكرية حتى يقوموا بحمايته ويقدموا شبابهم قرابين على مذبح حكم آل الأسد؛ فعليهم أن لا ينسوا كيفية إبعاد اللواء علي حيدر بسبب امتعاضه لرفض أداء التحية العسكرية له من قبل باسل الأسد، وأيضا كيف تم التخلص من اللواء غازي كنعان بحجة الانتحار وأهم دليل على كل ما سبق؛ توريث الحكم لبشار الذي لم يكن يسمح له عمره بتبوّء موقع الرئاسة، في المقابل تم استبعاد شخصيات علوية مخضرمة ونافذة عسكريًا من خلال التآمر مع مصطفى طلاس على ذلك، كما أن المعارضة في بداية الثورة قدمت طروحات مطمئنة لهم بقبولها تسلّم شخصيات علوية مثل العماد علي حبيب والدكتور عارف دليلة المرحلة الانتقالية مما يدل على أن غالبية السوريين يحمّلون عائلة الأسد والمقربين لهم المسؤولية الكبرى لما حصل لهم.
إن الشريحة العظمى من السوريين يرفضون الفساد من أية جهة كانت سواء كانت سنيّة أو علوية، عربية أو كردية أو تركمانية، فالفرصة ما زالت سانحة للطائفة العلوية بالانخراط في المشروع الوطني والقيام بأمر شبيه لما حصل معهم فترة الاستعمار الفرنسي عندما رفضوا دويلة لهم لصالح وحدة سورية.
كذلك نحن أمام دور مهم للكتلة الوطنية السورية بكل مشاربها لتسويق مشروع وطني حقيقي يستوعب الجميع بدون إقصاء أو انتقام وتكون العدالة والمساواة عماد مشروعها.
الأيام حبلى بالأخبار ويبدو أن آثار جائحة كورونا سترخي بظلالها على المشهد السوري فبشار يريد استخدامها لصرف الأنظار خاصة أن اتفاق سوتشي صمد رغم محاولاته العديدة للإفشال، فالجميع لا يرغب حاليا بالتصعيد في هذه المرحلة وأيضا لوحظ تراجع الدور الإيراني بسبب انكشاف ملاليها من خلال سوء إدارتهم للجائحة وكذلك قرب سريان قانون سيزر الذي سوف يكون أداة مهمة في محاسبة المافيا التي طالما تفنن نظام الأسد في إيجادها للتحايل على القوانين الدولية؛ فهل تكون خلافات البيت الداخلي للحكم الأسدي مؤشرًا على بدء نهاية حكم استمر نصف قرن، حكموا خلاله سورية بالحديد والنار، ملأتها عائلة الأسد بالمآسي والمصائب والفتن؟
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت