يقود الانسحاب الأميركي من أفغانستان إلى متغيرات سياسية ذات انعكاس استراتيجي في كل منطقة الشرق الأوسط. تتضح أكثر فأكثر معالم اللامبالاة الأميركية للتطورات الشرق أوسطية، إهمالاً لكل ملفات المنطقة. في مقابل قوى أخرى تسعى إلى سدّ الفراغ أو البحث عن فرصة لتعزيز شروطها وأوراقها وحضورها. ينعكس ذلك بشكل مباشر على الوقائع اللبنانية والسورية كما على كل وقائع المنطقة. ومن أبرز مؤشرات هذه التحولات، هي زيارة الوفد اللبناني الرسمي إلى دمشق في إعادة تطبيع العلاقات وافتتاحها رسمياً بعد عشر سنوات على انقطاعها. تركز طهران على تعبئة الفراغ وتحقيق مكسب سياسي جديد لصالح حلفائها.
لن تكون زيارة الوفد اللبناني الرسمي هي الوحيدة أو الأخيرة، سيكون هناك تحضير لزيارة يجريها رئيس الجمهورية ميشال عون إلى دمشق، ووفود من قوى متعددة ستذهب أيضاً باتجاه الشام على وقع البحث عن فرص لتوقيع اتفاقيات لها علاقة بالنفط والغاز، ووسط مساع عربية لإعادة سوريا إلى الجامعة العربية. تحاول إيران تظهير الانسحاب الأميركي وكأنه انتصار لها، تسارع إلى خطوات مع حلفائها تظهر قوتها وثبات نظرتها، وإنجاز المزيد من الأهداف السياسية. صحيح أن طهران تحقق أهدافاً سياسية وتسعى إلى تحقيق المزيد من التقدم تحضيراً للحظة تجديد التفاوض الكبير مع الولايات المتحدة الأميركية.
لم يكن الوفد اللبناني ليزور دمشق لو لم يكن هناك موافقة أميركية واضحة، حصلت الزيارة بتنسيق مع الأميركيين، من غير المعروف حتى الآن أبعاد هذه الخطوة الأميركية، إذا كانت ذات فعل صادق، أم أنها محاولة لنصب فخ جديد لكل من لبنان وإيران وسوريا معاً. السماح الأميركي بزيارة الوفد جاء بعد إعلان حزب الله عن استقدام النفط الإيراني إلى لبنان، قد يكون الردّ الأميركي هو إشارة إلى استمرار صراع المحاور والهويات السياسية، بين النفط الإيراني والنفط العربي، كما كان هناك صراع في السابق بين سوريا العربية وسوريا الإيرانية، من خلال نظرية احتضان النظام السوري عربياً لتخفيف النفوذ الإيراني وقضمه. ولكن أيضاً لا يمكن الوثوق بالأميركيين، الذي بعد عشرين سنة على مواجهة طالبان في أفغانستان، اتخذت واشنطن قرار الانسحاب وسلّمت البلاد كلها لجماعة قاتلتها وصرفت في سبيل قتالها آلاف مليارات الدولارات، وهذا أمر قابل لأن يتكرر مع إيران أو مع حزب الله في لبنان والمنطقة. وسوريا إحدى أبرز الأمثلة على التخلّي الأميركي عن دعم الشعب السوري وإطلاق يد إيران في سوريا وسحق الثورة السورية والحفاظ على النظام، وهذه كلها كانت نتيجة اهتمام واشنطن بتوقيع الاتفاق النووي الإيراني. وحالياً هناك مشهد يتكرر في درعا، من خلال مؤامرة دولية أميركية روسية لتهجير أهالي المحافظة كرمى لعيون خطوط النفط والغاز.
كما أن زيارة الوفد اللبناني إلى سوريا لم يكن لتحصل لولا الموافقة الأميركية، تبرز معلومات مؤكدة عن احتمال عقد لقاء بين رئيس المخابرات التركية هاكان فيدان، واللواء علي مملوك في العراق. ذلك يأتي في سياق الحركة الشاملة التي تقودها بغداد وحكومة مصطفى الكاظمي للجمع بين المتخاصمين، برعاية أميركية أيضاً. تشير المعلومات إلى احتمال عقد لقاء في شهر أكتوبر بين فيدان ومملوك في بغداد، وهو تتويج للقاءين استخباريين تركي وسوري حصلا في بغداد في الشهرين الفائتين، كذلك لا بد من الإشارة إلى لقاءين آخرين عقدا بين فيدان ومملوك برعاية روسية.
لا يعتبر ذلك تفصيلاً بالنسبة إلى مجريات التطورات، دخول تركيا بقوة أكبر إلى سوريا ولو من باب العلاقات مع النظام، سيكون له آثار سياسية متعددة، ما يركز عليه الأتراك وفق المعلومات هو ترتيب الوضع في درعا، وفي إدلب، وتوفير حماية للمدنيين، بالإضافة إلى تسهيل أمور السوريين المقيمين في تركيا، فيما الملف الثالث والأهم هو البحث في وضع الأكراد.
أمام هذه الوقائع لا بد من تسجيل ملاحظات أساسية على السياسة الأميركية. فإذا كانت وقائع الدخول الأميركي إلى الشرق الأوسط قد أدت إلى تحقيق تقدم إيراني، من أفغانستان إلى العراق وسوريا ولبنان واليمن، فإن الانسحاب الأميركي من المنطقة، ينطوي على تعزيز نفوذ الأتراك فيها، خروج الأميركيين من أفغانستان، ينطوي على تحقيق تقدّم تركي هناك وفي كل المنطقة المحيطة، ما سيعزز النفوذ التركي أكثر، وهو امتداد لنفوذ تركي أساسي في باكستان وطاجيكستان وأذربيجان، ولا ينفصل عن النفوذ التركي في البحر الأبيض المتوسط بفعل الاتفاق التركي الليبي. ذلك يرتبط أيضاً بالمصالحات التركية العربية والخليجية، وحالياً يأتي دور تركيا في سوريا من خلال تثبيت حضورها انطلاقاً من الانسحاب الأميركي، وكما فعلت أنقرة منذ لقاءات أستانا في تعزيز نفوذها في سوريا، حالياً تسعى إلى توسيع هذا النفوذ ولو ارتكز على لقاء أو تنسيق مع النظام.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت