يتم في بعض الأوساط السورية تداول مصطلح “البيئة الآمنة”، هذا المصطلح يذهب إلى وضع رؤية متكاملة حول توفير بيئة تسمح بعودة اللاجئين والنازحين السوريين إلى مدنهم وقراهم بكرامة وأمان، حيث تعتبر “البيئة الآمنة” جزءً من بيان جنيف1، ومن القرار 2254، وهذا يعني أنها لن تكون عملية منفردة يتمّ التركيز عليها كما يقول دعاتها، بل ستكون حجر الأساس ومدخلاً للحل السياسي للصراع في سورية وفق القرارات الدولية المشار إليها.
إن مصطلح “البيئة الآمنة” يحتاج إلى إضاءة شاملة، تتعلق بالشروط الواجب تحقيقها كي يصبح حقيقة ملموسة، وقبل كل شيء، يحتاج إلى رؤيته في سياق العملية السياسية، التي أطلقتها الأمم المتحدة عبر التفاوض على تنفيذ القرار 2254.
هذه العملية السياسية، رغم أنها ترتكز على جوهر القرار 2254 بسلاله الأربع، وفق تقسيم المبعوث الأممي السابق ديمستورا، إلا أنها بقيت تراوح في مربعها الأول دون إحراز أي تقدمٍ يذكر، وبقيت المراوحة مستمرة مع المبعوث الأخير للأمم المتحدة السيد “جير بدرسون”، الذي قاد تفاوضٍ اللجنة الدستورية دون أي إنجاز على صعيد كتابة مسودة دستور جديد برعاية أممية.
فشل التفاوض في كل مراحله ومسمياته يأتي انطلاقاً من رفض النظام الأسدي لأي تغيير سياسي أو دستوري، فهذا النظام لا يريد تنفيذ محتوى وجوهر القرار الدولي 2254، لأنه يُدرك أن التوافق حوله سينسف بنيته كنظام، ولهذا فهو يضع العراقيل تلو العراقيل، كي يكسب الوقت دون أن يقدم أي تنازل لمصلحة الحل السياسي.
النظام الأسدي وبالتعاون مع رؤية داعمه وحاميه المحتل الروسي يعمل على استبدال التفاوض حول القرارات الدولية، بما يُطلق عليه تسمية “مبدأ المصالحات”، هذا المبدأ يقوم على محاولة إعادة إنتاج النظام بصورة مزركشة شكلية، وتجاوز كل جرائمه المرتكبة بحق الشعب السوري، معتقداً (أي النظام) أن الزمن يعمل لصالحه، في وقت يقود فيه المناطق الخاضعة لسيطرته إلى خطر المجاعة والانهيار الاقتصادي، حيث تجاوزت نسبة السوريين ممن يعيشون تحت خطر الفقر المتعارف عليه دولياً نسبة ال 90% من مجموع السكان في البلاد.
لقد فشل مبدأ المصالحات المطبّق في المناطق السورية المختلفة، هذا الفشل مردّه إلى تجاهل حقيقي لبنية النظام الأسدي، التي تحكمها عقلية (الأسد أو نحرق البلد) الفاسدة، فمن رفض تقديم تنازلات لشعبه تفتح الآفاق لتطور اقتصادي واجتماعي وإصلاح سياسي، سيتعامل بالضرورة مع ما يُطلق عليه (المصالحات) بعقلية المنتصر، وهذا ينطوي على حقيقتين، أولهما قناعته أنه هزم قوى الثورة والمعارضة، وثانيهما فرض صلحه على المهزومين المفترضين بما يكفل بقاء هيمنته السياسية والاقتصادية ونهبه وفساده.
هذه الذهنية غير المستعدة للتفاوض، والرافضة لأي تغيير حقيقي في بنية النظام السياسي، سترفض بالضرورة ما يُطلق عليه مصطلح “البيئة الآمنة”، لأن هذا المصطلح ينطوي على فرض تغيير حقيقي في سلوك النظام، أي شلّ يده الأمنية، التي ارتكبت ولا تزال جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، هذه الجرائم موثقة بصور وفيديوهات وأوامر مكتوبة صادرة عن رأس النظام، تشمل عمليات القتل والتعذيب والإخفاء القسري وتدمير المنازل والمنشآت المدنية.
والسؤال الذي يجب طرحه بشفافية، ما دام النظام لم يمتثل هو وداعمه المحتل الروسي لتنفيذ القرار 2254، هذا التنفيذ يتطلب إجراءات سياسية تفضي بالنهاية إلى تغيير بنية النظام الأسدي، واستبدالها ببنية سياسية توافقية، وهو أمر لن يُقدم عليه هذا النظام، فكيف يمكن أن يقبل بصيغة (البيئة الآمنة) التي لا يمكن تحقيقها بغير تغيير عميق وجدي على مستوى بناء نظام الحكم، ولا يمكن تنفيذها دون ضمانات دولية حقيقية، تفرض على النظام وداعميه تطبيق هذه الخطوة التي تشكّل مدخلاً للحل السياسي الشامل؟
وفق هذه الرؤية، يمكن إعادة طرح الأسئلة على نحوٍ مختلف، بحيث تلامس الأسئلة الأسباب والدوافع لطرح (ضرورة سياسية)، وهي “البيئة الآمنة”.
طرح الأسئلة حول أهمية ما اعتبره دعاة البيئة الآمنة إنه ضرورة سياسية، إنما يكشف عن فهمٍ جديدٍ في تشكيل رؤية الصراع مع النظام الأسدي، وطريقة إدارة هذا الصراع بغير الأساليب والأدوات التي تمّت بها طيلة السنوات العشر المنقضية، دون تسجيل أي تقدمٍ حقيقي على مستوى الحل السياسي، بما يلبي بحدّه الأدنى مطالب الشعب السوري الثائر على نظام القهر والاستبداد الشامل.
هذا الفهم، يقوم على رؤية جديدة، تتحقق من خلال العمل من “القاعدة نحو القمة”، أي من خلال حشد وتأطير القوى السياسية والاجتماعية بشتى أطيافها على قاعدة موقف وطني لا إيديولوجي، مهمة هذا التأطير الوطني، والذي لا يمكن حسابه على أي توجه حزبي محدد، هي خلق جبهة دعمٍ وطنية ضاغطة على قوى الثورة والمعارضة (الائتلاف وهيئة المفاوضات والحكومة المؤقتة)، وعلى المجتمع الدولي، من أجل إجباره على البحث عن كيفية عودة آمنة وطوعية للاجئين السوريين من بلدان اللجوء، وكذلك عودة النازحين في الداخل إلى مناطقهم الأساسية وبيوتهم وفق خطة يرعاها المجتمع الدولي.
هذه العودة الآمنة والطوعية لا يمكن تحقيقها بغير بيئة آمنة، هذه البيئة في ظل الشروط السياسية الحالية لا يمكن توفيرها، وباعتبار أن البيئة الآمنة هي ضرورة سياسية، فهذه الضرورة لا يمكن تحقيقها في ظل ميزان قوى الدولي والإقليمي والداخلي القائم حالياً، ولعل عملية الحشد الشعبي والوطني من أجل هذه المهمة، يمكن أن تلعب دوراً في إعادة إنتاج معادلة الصراع مع النظام الأسدي على قاعدة تغيير في ميزان قوى الصراع الداخلي.
إن التمسك بتنفيذ القرار 2254 هو المبدأ الأساس في أي معادلة حلٍ سياسي للصراع السوري، وإن الشغل خارج التأكيد على التمسك بهذا القرار إنما يشكّل تخلّياً عن أوراق حقٍ مشروعة نصّ عليها القرار المذكور، وهذا يستلزم التعاون والتنسيق مع مؤسسات قوى الثورة والمعارضة، وفي مقدمتها الائتلاف الوطني وهيئة التفاوض.
التنسيق بين إطار الحشد الوطني والشعبي لمصطلح البيئة الآمنة وبين مؤسسات قوى الثورة إنما يخلق شروطاً جديدة، قد تؤثر على المجتمع الدولي، لإعادة نظره بضرورة تنفيذ قراراته، لكنها، أي عملية الحشد والتأطير لن تفضي إلى نتائج سريعة، ولكنها ستفضي إلى حالة من وحدة قوى الثورة بشتى أطيافها، وهذا يعني تغييراً عميقاً في أدوات وأساليب الصراع مع النظام، والتي ستفضي إلى إعادة إنتاج المجتمع الدولي لضروراته السياسية لمسألة الصراع في سورية.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت