التسويات هي الحل السياسي عند نظام الأسد
يواصل نظام الأسد إجراء عمليات “التسوية” في عدد من المحافظات السورية، في مسعى منه لتثبيت وجوده في تلك المناطق والتأكيد على عودتها إلى سيطرته الكاملة، بهدف ترويج رؤيته للحل ابتعادا عما يسميه الحلول الخارجية التي تتم برعاية دولية.
وكان النظام بدأ بالترويج للتسويات في وقت مبكر، عبر استحداث وزارة تحمل اسم “المصالحة الوطنية” منتصف العام 2012، قبل إلغائها لاحقا، حيث جند الكثير من الشخصيات الموالية له، من رجال الدين ووجهاء ومخاتير وتجار، لتسويق تلك التسويات التي ظل شكلها يتطور ويتمايز نسبيا بين منطقة وأخرى، لكنها كانت عموما تأتي بعد حصار وعمليات عسكرية تنتهي بتفريغ المدن المحاصرة من جميع المسلحين والرافضين لشروط يفرضها النظام، كما حصل في أحياء حمص القديمة عام 2014، وأرياف دمشق في 2016، ثم حلب الشرقية في العام نفسه، وبعدها الغوطة الشرقية ودرعا وجنوب دمشق عام 2018.
أما اليوم فتشمل التسويات مطلوبين في مناطق سيطرة النظام السوري ودون عمليات عسكرية منظمة، أو في مناطق متداخلة مع سيطرة قوات أخرى كـ قوات سوريا الديمقراطية (قسد) شمال شرقي سوريا. ووفق الناطق باسم “لجان المصالحة” التابعة للنظام، عمر رحمون، فإن مسار التسويات سيبقى مستمراً في عموم البلاد، وصولا إلى محافظة إدلب.
وقد شجعت مثل هذه التسويات لتحقيق أنماط من “المصالحات” المحلية بهدف طرح المناطق المستعادة كنموذج محلي لتسوية شاملة، بما يعكس رؤية النظام لآليات حل النزاع وفق منظوره، والقائمة على مراحل تبدأ أولا بإنجاز تسوية مع الفصائل المقاتلة تحت الحصار والضغط العسكري، تقود لسيطرته العسكرية على الأرض، ومن ثم تطوير هذه العملية إلى سيطرة كاملة أمنية ومجتمعية واقتصادية، وصولا إلى استعادة الوضع إلى ما كان عليه تماما قبل عام 2011، بما يفضي في المحصلة إلى إعادة تأهيل النظام وتعويمه دوليا، ما دام قادرا على حل مشكلاته بنفسه مع مجتمعه المحلي، والاستغناء تاليا عن “الحلول الخارجية” المستندة إلى قرارات دولية، خاصة مفاوضات جنيف بشأن الدستور.
والتسويات الجديدة التي بدأها النظام في محافظة درعا نهاية العام الماضي، تتشابه في شروطها وتشمل المطلوبين للفروع الأمنية أو المطلوبين بقضايا جنائية بناء على تقارير أمنية، إضافة إلى المنشقين عن جيش النظام، على أن يلتحقوا بقطعاتهم العسكرية بشكل فوري، والمتخلفين عن الخدمتين الإلزامية والاحتياطية. وفي المقابل، يلتزم النظام بوقف “إذاعات البحث” الصادرة بحق المطلوبين وتتم إزالة أسمائهم من الحواجز، وإن كان النظام لا يلتزم دائما بذلك، وكثيرا ما جرى اعتقال أشخاص خضعوا للتسوية، وبعضهم قضوا في سجون النظام.
وتولى هذه التسويات بشكل أساسي جهاز الأمن العسكري، الأكثر قسوة في التعامل مع المدنيين، في حين يشرف على الموجة الثانية من التسويات، اللواء، حسام لوقا، رئيس “إدارة المخابرات العامة”، الذي أشرف على تسويات درعا، وقبل ذلك ريف حمص الشمالي وريف العاصمة دمشق، حتى بات يطلق عليه اسم مهندس صفقات التسوية، بالرغم من أنه لم يكن للرجل المولود في منطقة خناصر بريف حلب الجنوبي، أي ظهور إعلامي منذ عامين، لكنه خضع لعقوبات أميركية وأوروبية.
وكان اللافت انتقال التسويات إلى مناطق غرب نهر الفرات حيث الاحتكاك مع مناطق سيطرة “قسد” والقوات الأميركية المنتشرة هناك، وهو ما أثار تساؤلات حول مدى القبول الأميركي بعودة سيطرة النظام على المدى الأبعد على تلك المناطق، ضمن تفاهمات مع روسيا وبتنسيق مع “قسد” في حال قرر الأميركيون الرحيل عن المنطقة.
ورغم الرفض الشعبي عموما لهذه التسويات، ظل النظام يتوسع فيها بهدف جذب الشبان من المناطق تحت سيطرة “قسد”، ومحاولة سحب البساط من تحتها والتجييش الشعبي ضدها، بين أبناء العشائر العربية، استغلالا للغضب الشعبي والنقمة على ممارسات “قسد”، وتاليا السيطرة على سكان تلك المناطق أمنيا وإداريا واقتصاديا، كونه لا يستطيع السيطرة عليها عسكرياً، بسبب وجود التحالف الدولي، من خلال تفكيك الكتلة السكانية في المناطق الخاضعة لقسد، وإيجاد كتلة سكانية تتبع له، إضافة إلى الحد من حالة الخوف والعدائية له لدى المجتمعات المحلية والتي تتخوف من عمليات انتقامية قد يقوم بها النظام في حال دخوله للمنطقة، وكل ذلك قد يشكل ورقة ضغط على قسد، ويهدد بسحب البساط من تحتها، إذ تحاول تصدير نفسها ممثلاً عن المجتمعات المحلية، وهذا يؤثر بشكل كبير في مشروعها للإدارة الذاتية، بحيث يعيدها إلى ممثل للكرد فقط، وليس عن مكونات متنوعة قومياً وجغرافياً.
ويعتمد النظام على التهويل الإعلامي لتعويض الفشل في جذب نسبة كبيرة من أبناء تلك المناطق، حيث تتحدث وسائل إعلام النظام يوميا عن إقبال واسع من الأهالي على التسويات برغم أن معطيات الواقع تجافي ذلك، حيث أغلب العشائر العربية تعارض النظام ولا تتوق لعودة تسلط أجهزته الأمنية على رقاب أبنائها. لكن النظام لا يبالي بمدى الإقبال الشعبي على هذه التسويات، لأن هدفه هو التسويق الإعلامي لها داخليا وخارجيا لإظهار أنه يملك الأرض والشرعية، والظهور بمظهر المنتصر في الصراع، وأنه قادر على منح العفو لمعارضيه.
وفي مجمل المناطق، لم يكن للتسويات أي أثر إيجابي على السكان، حيث تتواصل عمليات الاعتقال والاغتيال والفوضى الأمنية في محافظة درعا، ولا يثق الأهالي بوعود النظام، خاصة لجهة الإفراج عن المعتقلين من أبناء المحافظة، أو عدم اعتقال من يجرون تسويات، وهو ما لم يلتزم به النظام في الحالتين، فضلا عن مواصلة إهمال مناطقهم اقتصاديا وخدميا. أما في ريف دمشق، فقد جاءت التسويات الجديدة بعد انشقاق العديد من أبناء المنطقة ممن عقدوا تسويات سابقا، بسبب زجهم في مناطق الاشتباك بريف إدلب والبادية، ويستهدف النظام اليوم استعادتهم إلى صفوف قواته، في حين شهدت جميع المناطق التي تم التوصل إلى اتفاقات التسوية فيها، مثل الغوطة الشرقية وجنوب دمشق، اعتقالات للعديد من الرجال والنساء. كما أجبرت الأجهزة الأمنية المجتمع المحلي على تقديم معلومات مفصلة عن أقاربهم أو معارفهم داخل سوريا وخارجها، خاصة من قوى المعارضة أو الناشطين أو منظمات المجتمع المدني، بهدف بناء وتوسيع قاعدة بيانات مفصلة عن السكان، مما يسمح بتوسيع حملات الاعتقال في وقت لاحق.
وهذه التسويات محكومة بالفشل، ذلك أنها تبقي عوامل الصراع، مثل بقاء النظام السياسي والهيمنة الأمنية، ومنع الأحزاب السياسية والمجتمع المدني، وتقييد الحريات. كما أنها تسهم في ظهور انقسامات مجتمعية بين الناس أنفسهم، إذ عادت إلى الظهور طبقة المؤيدين من فرق حزبية ومخاتير ووسطاء محليين ومنتفعين ورجالات يعتمد عليهم النظام في بعض القضايا المحلية.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت