أحدثت جائحة “كورونا”، وما رافقها من تعليم عن بعد، نقطة تحول في مسار العملية التعليمية حول العالم، حيث تسارع الاعتماد على التكنولوجيا الرقمية في المؤسسات التعليمية، وأصبحت منصات التعلم عبر الإنترنت واستخدام الأجهزة الذكية حجر الزاوية في التدريس والتعلّم.
لكن لا تزال مواكبة تلك المستجدات في مناطق شمال غربي سورية تصطدم بعقبات عدة، رغم وجود تجارب محدودة خلال فترة “كورونا”، إذ إن ضمان تجربة تعليمية عالية الجودة ضمن هذه البيئة، أمر مليء بالتحديات، وفق باحثين وعاملين في قطاع التعليم.
وتشير الأبحاث إلى أن استخدام التكنولوجيا في التعليم أدى إلى تحقيق كفاءة، لكنه أثار أيضاً تساؤلات حول جودة التعليم ومدى توفر المهارات الرقمية الكافية.
تضارب الأولويات
تتحدث الباحثة المساعدة في “مركز عمران للدراسات الاستراتيجية”، حلا حاج علي، عن معوقات عدة تمنع تطبيق التعليم الرقمي في شمال غربي سورية.
وتقول في حديثها لـ “السورية نت”، إن أبرزها ضعف الانترنت وانقطاعه بشكل مستمر إن كان في المدن أو الأرياف، وعدم توفره في أغلب المخيمات بشكل كافي.
إلى جانب عدم قدرة المعلمين على تطبيق التعليم الرقمي، بسبب نقص المعارف التقنية وغياب مهارات إدخال التكنولوجيا إلى أساليب التدريس الحديثة، وفق قولها.
وبحسب حاج علي، فإن المناهج في شمال غربي سورية تعتمد بأغلبها على نظام الحفظ والتلقين، وهذا يتأخر عن المعلومات التي يجب أن يتضمنها منهاج التعليم الرقمي، عبر الاعتماد على المصادر المفتوحة وتشجيع الطلاب على البحث عن المعلومة بدلاً من تلقيها عن طريق المعلم داخل الغرف الصفيّة.
وفي ظل نقص الدعم الدولي لتلك المناطق، ترى المنظمات الإنسانية أن الأولوية في الدعم المقدم لقطاع التعليم هي لتأهيل المدارس وتدريب الكوادر التعليمية وتوفير المستلزمات الأولية للدراسة.
وفي نفس السياق، يقول الأستاذ إيهاب زكور، مدير مدرسة “ETC” المهتمة بالتعليم الرقمي في إدلب، إن انتشار ثقافة التعليم الرقمي في المنطقة “لا يزال محدوداً”.
وتحدث لـ “السورية نت” عن ضعف إمكانيات الموارد البشرية التقنية، وسط الحاجة لمبرمجين وكوادر تعليمية مؤهلة في هذا المجال.
ويرى زكور أن أبرز العقبات التي تمنع وصول التعليم الرقمي لشمال غرب سورية، هو عدم إتاحة الأجهزة الذكية من جوالات وحاسبات إلكترونية بين يدي الطلاب، خاصة المنتمين للأسر ذات الدخل المحدود، والتي تشكل شريحة واسعة من المجتمعات المحلية في المنطقة، وفق تعبيره.
كما يتحدث عن “ندرة المؤسسات التعليمية ذات الاهتمام بالتحول الرقمي، وفي حال توافر هذا الاهتمام يصطدم بحجم التمويل المطلوب سواء من حيث كلفة البنية التحتية البرمجية وكلفة إعداد المحتوى العلمي”.
ويشير زكور، الذي تخوض مدرسته تجربة في التعليم الرقمي، إلى “ارتفاع الكلف التأسيسية لهذا النوع من المشاريع، بالإضافة إلى ارتفاع الكلف التشغيلية”.
ما فرص تطبيقه؟
ترى الباحثة المساعدة في “مركز عمران”، حلا حاج علي، أن فرص تطبيق التعليم الرقمي في شمال غربي سورية “مرهونة بوصول الانترنت لكافة المناطق”.
وتتحدث عن الحاجة إلى رفع قدرات الكوادر التدريسية ومحو الأمية الرقمية بين المعلمين، عبر دورات تأهيل وتدريب على كيفية نقل المعلومات ومستوى المواد في كل مرحلة بتقنيات حديثة.
إلى جانب توفير الأجهزة الرقمية اللوحية للطلاب، كي يتمكنوا من متابعة دراستهم في المنزل.
وتقول: “يمكن هنا أن يكون الدور للمنظمات عبر التعاقد مع جهات تستطيع تأمين كميات من الأجهزة بأسعار منخفضة، وعقد اتفاقيات إنسانية واعتبار ذلك أولوية في مرحلة الانتقال للتعليم الرقمي”.
كما تحدثت حاج علي عن ضرورة رفع الوعي التقني للطلاب، عبر تعليمهم كيفية تمحيص المعلومات والاستخدام الأمثل للمعارف العلمية، من خلال إعادة تدوير المعلومات التي تأتي عبر الإنترنت وربطها بالمواد المدرسية.
من جانبه، لفت المُدرس إيهاب زكور، إلى أن فرص تطبيق التعليم الرقمي تزداد عبر ثلاث نقاط.
أولها توفير الدعم المالي للمؤسسات التعليمية الراغبة بالتحول الرقمي، والثانية توفير الدعم التقني من حيث الكوادر والبيئة التقنية اللازمة.
والنقطة الثالثة إعداد الكوادر اللازمة من الناحية التقنية وطرق التدريس الرقمي.
تجربة كورونا كمثال
خلال عامين من انتشار جائحة “كورونا” في الفترة بين 2020 و2022، عاش الشمال السوري تجربة التعليم عن بعد، بسبب إجراءات إغلاق المدارس والجامعات، ما استدعى الحاجة إلى إدخال الأجهزة الذكية على العملية التعليمية رغم الصعوبات.
وقال رئيس دائرة الثانوي في مديرية تربية إدلب، إسماعيل عبد القادر، حينها، إن العمل وفق نظام التعليم عن بعد هو تجربة جديدة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، متحدثاً عن صعوبات عدة واجهت الطلاب والمعلمين، منذ تطبيق ذلك النظام.
وأضاف في حديث سابق لـ”السورية نت”، أن آلية التعليم عن بعد في إدلب تمثلت عبر تشكيل المعلمين مجموعات “واتس آب” بمشاركة أهالي الطلاب، خاصة للمرحلة الابتدائية، ويتم من خلال تلك المجموعات شرح الدروس وحفظها وحل الوظائف.
وبحسب عبد القادر واجه التعليم عن بعد صعوبات عدة متمثلة بالظروف الاستثنائية التي تعاني منها مناطق شمال غربي سورية، وعلى رأسها حالة عدم الاستقرار وحركات النزوح الكبيرة التي تشهدها المنطقة، إلى جانب عدم توفر وسائل التكنولوجيا اللازمة بين يدي الأهالي، من هواتف ذكية وشبكات انترنت.
وتابع: “عانينا من موضوع الهواتف الذكية بشكل كبير، حيث اشتكى الأهالي من مسألة وجود هاتف واحد لدى العائلة فقط، وأكثر من طالب، ما أدى إلى الضغط عليهم وتخلف بعضهم عن المتابعة”.
لكن براء صمودي، مدير منظمة “إحسان للإغاثة والتنمية”، قال في حديث سابق لـ “السورية نت”، إن تلك الطريقة للتعليم “ليست مُستدامة ومضمونة بالكامل”.
مشيراً إلى أن شبكة الانترنت اللازمة للتعليم عن بُعد، ليست متوفرة في جميع المخيمات، كما أن بعض الأهالي لا يملكون الأجهزة الذكية التي تُرسل عبرها الدروس المصوّرة من قبل الأساتذة.
لافتاً إلى أن بعض المنظمات التعليمية لا تملك التمويل اللازم لإجراء تلك العملية.
وبالنظر إلى تجربة كورونا ونظام التعليم عن بعد، اعتبر مشرف مجمع تربية إدلب، عبد الله العبسي، في حديث سابق لـ “السورية نت” أن هذا النظام لا يعطي 5% مما يحتاجه الطالب، في ظل عدم توفر الإمكانيات من انترنت وأجهزة ذكية وكوادر متدربة.
لماذا التعليم الرقمي؟
تشير الأبحاث إلى أن التعليم الرقمي هو الاستخدام المبتكر للأدوات والتقنيات الرقمية أثناء التدريس والتعلم، وغالباً ما يشار إليه باسم التعلم المعزز بالتكنولوجيا (TEL) أو التعلم الإلكتروني.
ووفق تعريف جامعة “إدنبره“، فإن التعلم الرقمي يوفر العديد من الفوائد للطلاب، بما في ذلك فرصة الدراسة بمرونة ومن الموقع الذي يناسبهم.
في حين يشير مجلس الاتحاد الأوروبي إلى ضرورة جعل التعليم مناسباً للتحول الرقمي الحقيقي، وقادراً على مواكبة العصر، مع توفير المهارات والكفاءات اللازمة والتي ستكون ضرورية في هذا الواقع الجديد.
ويقول في تقرير له إن جائحة “كورونا” سلطت الضوء على “الحاجة إلى تحسين الاستعداد الرقمي لأنظمة التعليم والتدريب من حيث المرونة وإمكانية الوصول والجودة العالية والشمولية”.
وبموجب الخطة الأوروبية فإن أربعة من كل خمسة أشخاص سيحصلون على المهارات الرقمية الأساسية بحلول عام 2030، لافتاً إلى أن “هدف الاتحاد الأوروبي هو أن يتمتع 80% من السكان الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و74 عاماً بالمهارات الرقمية الأساسية على الأقل بحلول عام 2030”.
ويرى إيهاب زكور، مدير مدرسة “ETC” في إدلب، أن أهمية التحول الرقمي في المنطقة تنبع من نقاط عدة، أبرزها تخفيض الكلفة بشكل كبير بالنسبة للمستفيدين من العملية التعليمية الرقمية.
إلى جانب “سهولة استهداف كل الشرائح في المجتمعات المحلية وبسرعة فائقة، وتوفير فرص عمل لشرائح أكبر واستيعاب التضخم الكبير بالكوادر التعليمية”.
فضلاً عن الأثر الاقتصادي “الهام”، بحسب زكور، عبر “الفوائد التي تنجم عن إمكانية تصدير هذه الخدمة لدول أخرى، وذلك باستهداف أبناء المغتربين السوريين والذين يرغبون بالحفاظ على هوية أطفالهم الشرعية واللغوية”.