لعلّه من غير المفيد اجترار الأحاسيس والمشاعر التي تواكب أية حالة إحباط تبسط ظلها على نفوس السوريين خلال تسع سنوات خلت، بل إن الامتثال النفسي والفكري لهكذا حالات ربما يجعل حياة المرء تتحوّل إلى سرديات من النواح السياسي، في زمن لا يُلقي بالاً للمظلوميات واستعراض أسفار الشكوى، بقدر ما يأخذ بيد أصحاب المبادرات الفاعلة والصحيحة التي يتقن أصحابها فنَّ طرحها، ويدركون في الوقت ذاته، ماهيّة ما يسعون إلى تحقيقه.
قد يبدو هذا الكلام لصيقاً بنفوس معظم السوريين الذين يتابعون بحرقة، بل بمزيد من القهر، فصول المأساة الإنسانية في إدلب وحلب، والمتمثلة بمشاهد القتل والدمار الناتجة عن استمرار العدوان الروسي الأسدي الإيراني على أرواح السوريين، وكذلك برؤية مئات الآلاف من النساء والأطفال والشيوخ الذي باتت قوافلهم تملأ الدروب والبراري، تحت وابل حمم الطائرات والقذائف من جهة، وكذلك تحت وابل غضب السماء المتدفّق برداً وثلوجاً وأمطاراً من جهة أخرى.
وفي خضمّ هذه المأساة الموغلة في فداحتها، بل وفي موازاة زفرات الحزن والوجع المتدفقة من عيون الفارين من الموت، تعلو نبرة التساؤلات المليئة بالذهول: ما الذي يجري؟ ما سببه؟ ممّن كان التقصير؟ هل هناك خيانات. وإلى آخر ما هنالك من تخمينات، تعبر بمجملها عن ردود أفعال قد تبدو طبيعية في حينها، أكثر مما تعبّر عن أسئلة واعية لما يجري.
ولئن كانت هذه الظاهرة (النمطية) الملازمة لمجمل حالات النكوص قد تبدو طبيعية في حدودها الزمنية، أي أنها لا تلبث أن تزول تدريجياً، إلّا أن مكمن الخطورة يتجلّى في تأبيد هذه الظاهرة، إذ لم تعد محكومةً بالزمن الذي تستغرقه ردود الأفعال الصاخبة فحسب، بل تتحوّل إلى حالة مُستدامة، بل تتحوّل إلى أنماط من التفكير تحاول تفسير جميع ما يجري وفقاً لمحتواها العاطفي والنفسي العارض، وتنزاح كلّياً عن التفسير أو التحليل الذي يفرزه الوعي المقترن بموضوعية الرؤية وسلامة التشخيص والاستبصار الدقيق لمعطيات الواقع.
ثمة أمور عديدة – على امتداد ما فات من عمر الثورة السورية – ساهمت في تعزيز هذه الظاهرة، بل كان لها أثر واضح في تكريس الوهم والزيف السياسي، وكذلك في تشويه معالم النقاء في بعض مسارات نضال السوريين وكفاحهم ضدّ قوى الطغيان في سوريا، ولعلّ من أبرزها:
1 – استمرارية الاعتقاد الساذج بأن أولوياتنا هي ذاتها أولويات الطرف الآخر (الحليف أو المحايد)، وعدم التفكير بنقاط التلاقي والافتراق مع الآخر، تلك النقاط التي تحكمها المصالح بالدرجة الأولى، وليس أي شيء آخر، ثم لا يلبث هذا الاعتقاد الساذج أن يتحوّل إلى ضرب من البديهيات التي تركن في اللاوعي، مما يُفضي إلى حالة من التماهي مع مصالح الآخر، باعتباره هو الطرف الأقوى، موازاة مع نسيانٍ كامل لخصوصية المصلحة الوطنية.
إن تاريخ نضال الشعوب حافل بتحالف الثورات مع الدول والجماعات والكيانات، ولكن أطراف هذه التحالفات كانت تحرص دائماً على امتلاك التحكّم بنقاط الاقتراب والابتعاد التي تقتضيها المصالح، مُدركةً في الوقت ذاته، أن التماهي المطلق مع الحليف الأقوى قد يؤدي إلى حالة من الارتهان والتبعية العمياء.
إن القدرة على بناء تحالفات مع أطراف إقليمية ودولية، قائمة على المصالح المتبادلة هي من سمات القيادة الناجحة، بل لا بدّ من البحث عن هكذا تحالفات، ولكنّ الأهم من ذلك، هو القدرة على التحكّم بمسار هذه التحالفات، من حيث الابتعاد والاقتراب من المصلحة الوطنية، وعدم الانصهار بمصالح الآخر على حساب المصلحة الأم.
2 – إن فكرة التماهي مع الحليف الأقوى، وافتقاد الخصوصية الوطنية التي تعني افتقاد القرار الوطني، قد تؤدي إلى تفويض كامل للآخر، وبالتالي عليك أن تقبل بالنتائج التي تقتضيها مصالح الجهة المُفَوّضة، صاحبة القرار. ولعلّ هذا ما قد حصل بالفعل، لوفد المعارضة السورية الذي شارك في الذهاب إلى سوتشي في 30 كانون ثاني 2018، وحين لم يُتح للوفد المذكور المشاركة الفعلية في اللقاء، وأمضى بعض أعضاء الوفد ليلتهم في ردهات الفندق، قام رئيس الوفد، بتصوير (فيديو) مخاطباً السوريين، موضحاً أسباب عدم مشاركته، ومفوَّضاً في الوقت ذاته (الأخوة الأتراك) بمتابعة القضية التي يُفترض أنّ وفداً سورياً سيمثلها. علماً أن مفهوم تفويض طرف لوسيط آخر حول مسألة جزئية هي موضع نزاع أو تفاوض بين دولتين مثلاً، لهو من الأمور الواردة إن اقتضت الضرورة، أمّا أن تفوّض طرفاً آخر بقضيّة تمسّ مصير شعب كامل فتلك الطامة الكبرى. وهل حصل في تاريخ الثورات أن نجحت ثورة بالوكالة؟
3 – إن القبول بالمقدمات هو مُلزِمُ القبول بالنتائج، والمقدمات الخاطئة لن تثمر نتائج سليمة، وإن كانت النتائج غير مرضية فلا تتيح التنصّل من المسؤولية، وهل كانت معظم النتائج التي يحصدها السوريون في إدلب وحلب، وقبلها في الغوطة ودرعا، سوى نتيجة لتداعيات مسار أستانا؟
لم يكُ ما سعى إليه بوتين، منذ عدوانه المباشر على الشعب السوري في أيلول 2015 ، خافياً على معظم جمهور الثورة، بل إن سخطَ الشارع الثائر داخل سوريا وخارجها قد لازم سيرورة مفاوضات أستانا منذ بدايتها مطلع 2017 ، وحتى نهاياتها المأسوية الراهنة، وكذلك لم تخفت الأصوات التي ردّدت وحذّرت ، إلى درجة التكرار المبتذل، من الوصول إلى منزلق خطير باتت ملاحه الأولى تلوح بالتبلور منذ ثلاث سنوات، ويتجسّد بأمرين إثنين: الأول احتواء الروس لجميع أشكال المقومة المسلحة، ومن ثم الإجهاز عليها، باستثناء النصرة وداعش لإبقائهما ذريعة لاستمرار العدوان، والثاني: الالتفاف على جميع القرارات الأممية، وإفراغها من مضمونها الجوهري، واختزال قضية السوريين بلجنة دستورية لا أحد يتنبأ بمصيرها. وبالمقابل، فإن إصرار المعارضات السورية ووفودها المفاوضة على عدم الاستماع إلى مَن هم خارج دوائرهم، والالتزام فقط، بالأدوار أو المهام الموكلة إليهم إقليمياً أو دولياً، قد جعلهم أصحاب أدوار (وظيفية)، ذات محتوى وطني مسلوب.
لعلها مفارقة توجب القول: لقد أفضى العدوان الروسي الأسدي الجاري على إدلب وحلب، إلى استشهاد الآلاف، ونزوح ما يقارب المليون، فضلاً عن استيلاء قوات النظام على معظم الجزء الغربي من الريف الشمالي لحلب، وفي الوقت الذي كان ينتظر فيه كثير من السوريين، أن يسمعوا توضيحاً أو شرحاً أو تعليلاً لحقيقة ما جرى ويجري، وذلك ممّن يُفتَرض أن يكونوا أصحاب القرار أو ممن هم في موقع القيادة (الائتلاف – الجيش الوطني – هيئة التفاوض – جماعة أستانا إلخ )، وذلك من خلال مؤتمر صحفي، أو لقاءات مباشرة مع المواطنين، إلّا أن شيئاً من ذلك لم يحصل، وما يزال المواطنون السوريون يبحثون عن أخبارهم في مصادر أخرى غير سورية، فهل هو إقرارٌ بالدور الوظيفي، أم استمرار بالانفصال عما يجري؟.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت