منذ الإعلان عن “جبهة النصرة”، في عام 2012 وحتى اليوم، اتبع أبو محمد الجولاني، استراتيجيات خاصة للحرب؛ ورغم أنها شكّلت حالة فريدة في العسكرة الخاصة بالملف السوري، لكن تفاصيلها العامة قد تبدو وكأنها الاستراتيجيات التي حددها الكاتب الأمريكي روبرت غرين في كتابه “33 استراتيجية للحرب”، فالقارئ له سيجد تنفيذاً حرفياً لها من قبل “الفاتح الجولاني”، بدءاً من “تحديد العدو بدقة”، ووصولاً إلى استراتيجية “الجبهة الداخلية”، والتي كان ومازال ميدانها محافظة إدلب.
فقد باتت إدلب حيث يتواجد الجولاني، وبعد خمس سنوات أعقبت طرد قوات الأسد منها، دون حدودٍ خارجيةٍ ثابتة، على عكس حدودها الداخلية التي رسمتها “تحرير الشام” لصالحها بشكل كامل، بعد أن باتت الجسم العسكري الأبرز والمتحكم الرئيسي بما يجري على الميدان، وهو أمرٌ لم يكن أن يتم إلا بأدواتٍ كان لها الدور الأبرز في السيطرة، علّها تزرع أيضاً أسس البقاء، التي لطالما حلم بها “الجولاني”، منذ أن وطأت قدماه الأراضي السورية.
“حركة أحرار الشام” والانقلاب الداخلي فيها، كان آخر حدثٍ في إدلب تردد فيه اسم “الجولاني”، بعد مساندته للجناح العسكري في الحركة بقيادة “أبو المنذر”، الذي انقلب على القيادة التي يتزعمها “جابر علي باشا”، وما رافق ذلك من محاولات “تحرير الشام” تعويم القائد السابق للحركة “حسن صوفان”، في خطوات استباقية لتشكيل مجلس عسكري عام يمثل محافظة إدلب، ويتصدر ميدانها العسكري.
ولم تكن مساندة “الجولاني” للطرف المنقلب في “أحرار الشام” عن عبثٍ، فإلى جانب خطواته الاستباقية المذكورة في سياق المجلس العسكري المرتقب، فهو يحاول بذلك تفكيك آخر الأجسام العسكرية المتصدرة في إدلب، وإطلاق آخر الرصاصات عليه، وهي سياسةٌ كان قد اتبعها على مدار السنوات الماضية، ضد جميع الفصائل العسكرية في إدلب، آخرها “حركة نور الدين الزنكي”، ضمن حرب السيطرة والبقاء التي اتضحت ملامحها، منذ ثلاثة أعوام تقريباً.
وغير بعيدٍ عن تحولات “تحرير الشام” وخطاب قائدها “الجولاني”، الذي تبدّل بشكل جذري في كل مرحلة، فإنه وحسب خبراء بـ”الجماعات الجهادية”، استخدم عدة أدوات واستراتيجيات منذ سنوات، للوصول إلى هذه المرحلة، والتي يشي الواقع الميداني في إدلب، أن “الجولاني” حقّقَ فيها شيئاً من أهدافه، دون وضوح ما إذا كانت ستحقق له البقاء في الأيام المقبلة أو ربما الشهور والسنوات.
فالسيناريوهات المستقبلية، لا يمكن فصلها عما ستكون عليه التفاهمات بين روسيا وتركيا في المرحلة المقبلة، وأيضاً الولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت تخترق أجواء إدلب بين الفترة والأخرى، لقتل شخصيات وقيادات “جهادية”، محسوبة على تنظيم “القاعدة”، حسب قولها.
تفكيك “الأحرار”
مع قرب انتهاء عام 2020 يمكن القول بأن “هيئة تحرير الشام” هي الجسم العسكري النافذ والمتحكم في إدلب عسكرياً وإدارياً، ولا يمكن فصلها عن أي مشهدٍ مقبل قد تكون عليه المحافظة، والتي توسم وحتى الآن بصفة “الإرهاب”، التي زرعها الروس ويتذرعون بها، بحجة وجود “جبهة النصرة” (الاسم الأول لهيئة تحرير الشام).
ومع المرحلة الحالية التي وصلت إليها “تحرير الشام”، وما أعقبها من تغيّيراتٍ بخطابها، وصولاً لخطواتٍ عديدة بهدف توسيع “الحاضنة” على الأرض، فإنها تحاول المضي قدماً بخطوات تشكيل “المجلس العسكري”، الذي دار الحديث عنه مؤخراً، والذي من المفترض أن تتصدره ثلاث شخصيات، (من هيئة تحرير الشام، والجبهة الوطنية للتحرير، وحركة أحرار الشام) كخطوة لرسم المرحلة المستقبلية التي ستكون عليها إدلب عسكرياً وإدارياً.
السير في “المجلس العسكري” والقبول به لم يكن أن يتم من جانب “تحرير الشام” إلا بوضع خطة تفكيك “أحرار الشام”، التي حسب ما قال مصدر عسكري في فصائل الشمال لـ”السورية.نت”، هي طرفٌ بارزٌ فيه، ما يعني أنها ستكون قوة موازية لا يستهان بها في القرار وفي التنفيذ.
وعلى الرغم من تنفيذ “الجناح العسكري” في “أحرار الشام” لـ”الإنقلاب”، ومحاولة فرضه كأمر واقعٍ على الأرض، إلا أن إعلان قوات “النخبة” وعدة تشكيلاتٍ عسكرية في “الأحرار” تمسكها بـ”القيادة الشرعية”، لجابر علي باشا، يشي بأن “الإنقلاب” لم ينجح، وهو ما قد يلعب دوراً مهماً في خطة تأسيس “المجلس العسكري” وتشكيله، بانتظار ما ستؤول إليه التطورات الداخلية في الحركة، والتي تشهد تحركات أخذ ورد بين “حسن صوفان” ورأس القيادة “جابر علي باشا”.
تموقعٌ وحرب استئصال
الباحث في شؤون الجماعات الجهادية، عباس شريفة يرى في حديثٍ لـ”السورية.نت” أن “الجولاني” استخدم عدة أدوات واستراتيجيات، مكّنت له السيطرة شبه التامة على “الشمال المحرر”، على الرغم من الرفض “الشعبي والثوري” له.
الأداة الأولى، حسب شريفة هي “إدراك الجولاني لأهمية التموقع، الذي يمنع استهدافه دولياً وإقليمياً، من خلال عدة خطوات قام بها من فك الارتباط بالقاعدة، والقطيعة مع الأيديولوجيا السلفية الجهادية، وإعطاء إشارة إلى أن سلاح تحرير الشام لن يستهدف أي جهة خارج الحدود، وأن معركة تحرير الشام هي مع نظام الأسد أساساً”.
ويضيف شريفة أن الأداة الثانية، هي الإمساك بملفات أمنية مهمة للدول “مثل ملف المقاتلين الأجانب، وبدئه لحرب الاستئصال على التنظيمات الجهادية الأكثر تشدداً، كجند الأقصى وتنظيم الدولة وحراس الدين، وهو أمر كانت الجهات الدولية تنظر له بعين الرضا، وكأن الجولاني يلعب هذا الدور باحترافية عالية”.
وكانت الأشهر الماضية قد شهدت عدة حملات أمنية لـ”تحرير الشام” ضد فصائل “جهادية”، على رأسها تنظيم “حراس الدين”، والذي كان في سابقاً حليفاً للجولاني، ضد فصائل “الجيش الحر”.
وبالتوازي مع الحملات الأمنية لـ”الهيئة” تعرضت الفصائل “الجهادية” لضربات جوية من التحالف الدولي، الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، ما أدى إلى تلاشي قواها العسكرية، بحسب مراقبين، وهي حوادثٌ لاقت صداها بشكل أو بآخر في محاولات تفرد “تحرير الشام” بميدان إدلب، وبالتالي سيطرتها الكاملة على الساحة.
ما سبق يؤيده الباحث في شؤون الحركات الدينية، عرابي عرابي، موضحاً أنه “وبعد السيطرة على مقاليد الأمور العسكرية وتفكيك أهم فصيل عسكري في الشمال وهو حركة الزنكي اتجهت الهيئة إلى تفكيك خطاب العنف، وبدأت تقدم نفسها على أنها فصيل معتدل، عن طريق اعتقال شخصيات متشددة داخلها وخارجها”.
ويشير عرابي لـ”السورية.نت” بأن “تحرير الشام” وعقب إعادة هيكليتها العسكرية، في الأيام الماضية طرحت مشروع “المجلس العسكري”، وبالتوازي مع ذلك كان هناك محاولات من فصائل جهادية للتجمع في تشكل موحد، تحسباً لأي طارئ قد يصيبها على الأرض.
ويضيف ذات الباحث، أن “أبو محمد الجولاني” تحسّس ما بدأت الفصائل الجهادية بالعمل عليه، ما دفعه إلى تحييدها وشل فاعليتها، وفيما بعد توجّه لاعتقال الرموز والقيادات الفعلية وخاصةً حراس الدين، بالإضافة إلى اعتقال مدربين عسكريين كأبو صلاح الأوزبكي.
شراء الزمن وتحالفٌ مرحلي
ما وصل إليه “الجولاني” الآن، لا يمكن فصله عمّا نسجه في السنوات الماضية، وبشكل خاص منذ عام 2012، حين أعلن “جبهة النصرة”، وحدد أهدافها بـ “إعلاء كلمة الله”. في ذلك الوقت كان يهاجم الدول الغربية ومعها تركيا التي كان يصفها بـ “النظام التركي المتحالف مع أمريكا”، وهي أفكارٌ وثوابت لم يبق منها شيئاً مع تقادم السنين، وتتالي المراحل وتغيّر الظروف.
وضمن الحديث عن أدوات السيطرة والبقاء التي استخدمتها “تحرير الشام” فقد كان أبرزها، حسب الباحث عباس شريفة، خطوات “شراء الزمن والوجود مقابل التضحية بالملفات الهشة”.
ويشير شريفة إلى أن “الجولاني ترك مركب تنظيم الدولة عندما أحسّ اقتراب أجل استهدافه ومسلكه الانتحاري، لينتقل إلى مركب القاعدة، ثم نازل السلفية الجهادية، وهكذا حتى تحول لفصيل محلي بمشروع يتلخص بالحفاظ على سلطته في بقع جغرافية صغيرة “.
كما أقدم “الجولاني” على تسليم الكثير من المناطق “المحررة” دون قتال، حسب شريفة الذي يضيف: “كان يحذر دائماً من خوض معارك استنزاف، ويحاول توزيع الاستنزاف على باقي الفصائل، لكي يبقى فصيله موفور القوة، بينما عمل على تنفيذ مخرجات أستانة، وحرس نقاط المراقبة التركية، كفصيل إقليمي قادر على التماهي مع التسويات”.
وعملت “النصرة-جبهة فتح الشام”، منذ تأسيسها، على عدم الوقوع في فخ العزلة العسكرية، وحرصت على نسج التحالفات المرحلية مع فصائل “الجيش الحر”، وهو ما حصل في بادئ الأمر في تجربة “جيش الفتح”، ليتم فيما بعد طرح مشروع الاندماج ضمن “هيئة تحرير الشام”، ومن ثم غرفة عمليات “وحرض المؤمنين”، وصولاً إلى “المجلس العسكري” في الوقت الحالي.
وما سبق من التحالفات المرحلية كان قد ساندها العمل خلف حكومة “شكلية”، وهي “حكومة الإنقاذ”، الوجه المدني لـ “تحرير الشام”، والتي تحاول من خلاله ممارسة السلطة من الخلف، تجنباً للانعزال المفضي للاستهداف.
وكأداة فاعلة أخرى استخدمها “الجولاني” في حربه لتأسيس الإمارة يقول شريفة إن الأخير أدرك أهمية الجانب الاقتصادي في ترسيخ السلطة، فاستولى على جميع موارد وتجارة المناطق “المحررة” من نفط وغاز وقمح وسوق صرافة وبيع أراضي المشاع، كما سيطر على المعابر واحتكر المواد الغذائية الضرورية المستوردة، في حين بنى شبكة سرية من الاستثمارات الخارجية، وكل ذلك يتم تحت اسم “حكومة الإنقاذ”، والتي تمسك بالكامل بالجانب الإداري لإدلب.
جهاز أمني ساعد على الاختراق
بالعودة إلى أداة تفكيك الفصائل الذي اعتمد عليها “الجولاني” للتفرد في “ساحة إدلب”، فهي سلاحٌ أسسه الأخير بدقة، بحيث تكون فرص نجاحه كبيرة، بعيداً عن أي مكان للفشل، خاصةً أن هذه الخطوة هي حجر الأساس لما وصلت إليه “تحرير الشام” حالياً، بكونها الفصيل الأبرز الذي لا يوازيه أي تشكيل عسكري آخر.
ويربط عباس شريفة، بين نجاح “تحرير الشام” في عملية تفكيك الفصائل، ومحاولتها الأخيرة في إنجاح الانقلاب الداخلي في “حركة أحرار الشام” بجهازها الأمني المتطور.
إذ يقول:”عملت الهيئة على بناء جهاز أمني متطور بالمقارنة مع باقي الفصائل، واستطاعت من خلاله اختراق الفصائل التي فككتها”، مضيفاً أن الجهاز الأمني كان مهتمه أيضاً “مراقبة حركة الانشقاق داخل تحرير الشام نفسها، حيث أجهضتها في مهدها، دون أن تؤثر هذه المحاولات على تماسكها”.
وكان للجهاز الأمني لـ”تحرير الشام” مهامٌ أخرى، بينها اختراق التنظيمات الجهادية المحسوبة على تنظيم “القاعدة” أيضاً، على رأسها تنظيم “حراس الدين” المنضوي في غرفة عمليات “فاثبتوا”، بالإضافة إلى اختراق “الحاضنة الشعبية” على الأرض، لكشف ما يحاك ضدها.
ووفق الباحث: “لا يمكن تجاهل استراتيجيات أخرى استخدمها الجولاني للسيطرة والبقاء، بينها استراتيجية السلاح الثقيل، الذي قامت بتجميعه من الفصائل، وحصرته بيدها لتمتلك بذلك قرار الحرب والسلم في المحرر، وهذا ما حولها لرقم صعب مقارنة مع باقي الفصائل”.
معركة إعلامية
إلى جانب ما سبق أشار الباحث، عباس شريفة إلى أداة لا ترتبط بالميدان والفصائلية وماتزال في يد “تحرير الشام” وتدرك أهميتها، وهي “الأداة الإعلامية”.
ويوضح المتحدث، أن “الجولاني يدرك أهمية المعركة الإعلامية، وهذا ما انعكس على خطابه وصوره في الجبهات ومع المدنيين ومخاطبة الناس، حتى طريقة اللباس كانت مدروسة بعناية”. ويتابع:”كانت إدارة الجولاني للجيوش الإعلامية الرديفة متقنة للغاية، حيث كان يمهد لكل خطوة سياسية أو عسكرية بحملة إعلامية قوية على الإعلام الرديف، حتى تتحول إلى رأي عام”.
ولـ”تحرير الشام” منبراً رسمياً وحيداً هو وكالة “إباء”، وتستخدم فيها لغة بسيطة “منفتحة”، وهو ما يساعد على وصولها بشكل أكبر إلى المتلقين من غير المناصرين، وإلى جانب وكالة “إباء” هناك العديد من المنصات والحسابات التابعة لـ”تحرير الشام” (المناصرة) عبر موقع “تلغرام” بالتحديد، وهي ذات فاعلية ووصول أكبر من الوكالة، وتحاول تمرير رسائل مبطنة لسياسة “الهيئة” الجديدة، بين الفترة والأخرى.