لم يمض يومان على الجدل الذي أثارته معلومات اعتقال الرجل الثاني في “هيئة تحرير الشام”، أبو ماريا القحطاني حتى نشرت الأخيرة بياناً رسمياً قالت فيه إنها “جمدت صلاحياته ومهامه، بسبب خطئه في إدارة تواصلاته دون اعتبار لحساسية موقعه”.
ورغم أن “الهيئة” لم تخض كثيراً في تفاصيل تجميد “صلاحيات القحطاني” وهو القيادي في الصف الأول فيها، إلا أن الخطوة التي اتخذتها جاءت في أعقاب إعلان “جهاز الأمن العام” التابع لها في محافظة إدلب عن “ضبط خلية جاسوسية تعمل لصالح جهات معادية”.
وكانت تقارير إعلامية قد أثارت هذه القضية، قبل أسابيع، وتحدثت عن وجود اختراق أمني داخل صفوف “تحرير الشام”، ومتعاملين لمصلحة التحالف الدولي وروسيا والنظام السوري، وهو ما أكدته “الهيئة” بنفسها، في وقت أشارت سابقاً إلى أن “العملاء ضمن صفوفها هم عناصر جدد انتسبوا إلى صفوفها”.
لكن “القحطاني” لا يحسب على “المنتسبين الجدد”، بينما له قصة ومسيرة طويلة مع “هيئة تحرير الشام” حالياً، وعندما كانت تحت مسمى “فتح الشام” سابقاً، وقبلها “جبهة النصرة”.
وجاء في بيان لـ”تحرير الشام”، نشر يوم الخميس، أن القيادة العامة فيها شكلت لجنة تحقيق خاصة بشأن “أبو ماريا القحطاني”، والتي استدعت الأخير على الفور.
وأضاف البيان أن اللجنة استدعت “القحطاني” لمساءلته بكل شفافية ووضوح تقديراً “منا لدرء الشبهات وإزالة اللبس”.
وتبين للجنة أن “أبو ماريا” أخطأ في إدارة تواصلاته “دون اعتبار لحساسية موقعه أو ضرورة الاستئذان وإيضاح المقصود من هذا التواصل”، ما استدعى تجميد مهام وصلاحيات القيادي الذي تعود أصوله إلى العراق.
من هو “أبو ماريا”؟
أبو ماريا القحطاني أو “الهراري” أو “أبو الحمزة”، هو ميسر بن علي الجبوري القحطاني.
ولد في قرية الرصيف عام 1976، وحيد على ثمان شقيقات، ثم انتقل مع عائلته إلى قرية هرارة العراقية وتربى بكنف والده “أبو ميسرة”، المعروف بفكره السلفي والذي أعطاه لقب “الوهابي”.
مسيرة القحطاني مع الجماعات الجهادية بدأت عام 2003 بعد الاحتلال الأمريكي للعراق بشكل مباشر، حيث كان أحد أعضاء الجماعة السلفية التي يتزعمها محمد خلف شكارة “أبو طلحة الأنصاري”، التي كانت عماد جماعة “التوحيد والجهاد” قبل بيعة أبو مصعب الزرقاوي “للقاعدة”.
شارك في معركتي الفلوجة الأولى والثانية ومعارك أخرى في تل عفر والموصل وبغداد وفي نهاية عام 2003، استلم القحطاني قيادة كتيبة “التهلكة”، وبعدها بأشهر عُين مسؤولاً عسكرياً بين الموصل وصلاح الدين، حسب ما يورد تقرير للصحفي، محمد حسان.
“المحطة السورية”
مع بدء الثورة السورية كان القحطاني متواجداً في سورية، وعلى علاقة مع بعض قادة “حركة أحرار الشام” وبعض فصائل “الجيش الحر”.
وبعد وصول قائد “تحرير الشام” حالياً، أبو محمد الجولاني إلى سورية مكلفاً من تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق” لتشكيل تنظيم موازي في البلاد، كان القحطاني من استقبله.
عمل القحطاني شرعياً في “جبهة النصرة”، وأميراً للمنطقة الشرقية من سورية مع بداية العمل المسلّح عام 2012.
ولم يظهر بصورته الكاملة في ذلك الوقت، وبقيت مجهولة، إلا أن تبدد الضباب عن هويته بعدما نشر تنظيم “الدولة الإسلامية” إصداراً ظهر فيه وجهه، وفي أثناء تحدثه عن تشكيل “المجلس الثوري العسكري” عام 2014.
كان ينظر إلى القحطاني على أنه أبرز المنظرين الذين يوصفون بـ “الإصلاحيين” في “النصرة” سابقاً.
وما إن فشلت “النصرة” في التوسع ضمن دير الزور بعد إعلان تشكيل المجلس العسكري، توجه ومجموعته نحو درعا، وهناك خاض معارك ضد “شهداء اليرموك” الذي كان من فصائل تنسيق الدعم “موك” حينها، و”جيش خالد بن الوليد” المبايع لتنظيم “الدولة”.
بقي قرابة سنتين في درعا، وبعدها انتقل إلى محافظة إدلب في شمال غرب سورية، في عملية انتقال غامضة أثارت الكثير من الجدل والاستغراب، كون الطرق التي عبرها آنذاك كانت خاضعة لسيطرة النظام السوري.
“إلى جانب الجولاني”
وتقول مصادر مطلعة على مسيرة “القحطاني” لموقع “السورية.نت” إن الأخير وحال وصوله إلى محافظة إدلب سعى إلى تشكيل “فصيل خاص به”، معتمداً بذلك على العلاقات التي كان قد كونها في أثناء نشاطه في المنطقة الشرقية لسورية.
لكن الجولاني وبعدما عرف نواياه اتجه لاستقطابه إلى صفوف “فتح الشام”، ومن ثم “تحرير الشام”، وهو ما حصل بالفعل، ليكون “أبو ماريا” الرجل الثاني في “الهيئة”.
في محافظة إدلب ظهر “القحطاني” في عدة مناسبات إلى جانب الجولاني، وأظهرت بعض الصور جلوسه مع قائد “الهيئة” في اجتماع عشائري، بينما انتشرت له صورة، في أعقاب الاشتباكات الأخيرة التي شهدتها مدينة عفرين.
وكانت الاشتباكات قد اندلعت بين فرقتي “الحمزة” و”سليمان شاه” من جهة و”الجبهة الشامية” من جهة أخرى، وزجت “تحرير الشام” بنفسها لتدعم الطرف الأول، وهو ما أتاح لها اختراق عفرين، المحسوبة على نفوذ “الجيش الوطني السوري”.
قبل أشهر تحدث “القحطاني” لصحفي قناة “فرانس 24“، وسيم نصر، وعكست الرسائل التي وجهها إلى جانب “الجولاني” تحوّل كبير في سلوك جماعة “تحرير الشام”.
ونقل الصحفي نصر عن القحطاني قوله إن “الهيئة تحارب تنظيم داعش والقاعدة وأنها ليست حركة جهادية وأن الجهاد انتهى”، مضيفاً: “نحن نمنع الشباب هنا من الدخول في الدولة الإسلامية (داعش) وتنظيم القاعدة ودعينا إلى حل القاعدة”.
وتابع “أبو ماريا”: “نحن نعتبر اليوم أن الجهاد انتهى وأننا لسنا حركة جهادية ولا نريد أن نصنف كجهاديين وأن يتكلم معنا خبراء بالحركات الجهادية، نحن خرجنا من هذا الأمر”.
ومضى قائلاً “نحن لا نقول إن حركة تحرير الشام حركة ديمقراطية لكنها ليست جهادية عالمية كالقاعدة والدولة الإسلامية”، ناكراً مسؤولية الحركة عن أي عمليات إرهابية في الغرب.
لماذا أطيح به؟
ومن غير الواضح حتى الآن الأسباب التي دفعت قيادة “تحرير الشام” لتجميد صلاحيات ومهام “القحطاني”، وكذلك الأمر بالنسبة لما ستفرضه هذه الخطوة على البيت الداخلي لـ”الهيئة”.
وبينما ألمحت “تحرير الشام” إلى اتهام يتعلق بـ”عمالة القحطاني”، اعتبر مراقبون وشخصيات جهادية أن “تجميد صلاحياته” لا يمكن فصلها عن مساعي “الجولاني” للإطاحة بكل شخصية يرى من خلالها تهديداً على منصب قيادته لـ”تحرير الشام”، وأن ما حصل “مرده صراع أجنحة داخلي”.
وقال القيادي المنشق عن “جبهة النصرة”، صالح الحموي المعروف باسم “أس الصراع في الشام” عبر موقع التواصل “x”: “أبو ماريا ليس عميل وهذا لا يعني أنه ليس مجرم وشارك بالبغي”.
واعتبر أن “القضية هي أن الجولاني يعتبر أن تواصل أي قيادي مع جهة خارجية دولة أو غيرها بمثابة تجهيز لانقلاب ضده”.
وتابع: “استغلوا فساد بعض مرافقيه وتواصلات أبو ماريا الخارجية، ومن ثم أوقفوه ليلة ونصف، وصولاً إلى وضعه في إقامة جبرية مع منعه من التواصل”.
وأضاف حساب “مزمجر الشام” أن “القحطاني الذي تسلم مسؤولية ملف تنظيمي الدولة والقاعدة كان على توافق تام مع الجولاني. الأخير ومنذ عام 2018 فتح بنفسه أبواب هيئة تحرير الشام أمام أجهزة الاستخبارات، فمن الوصاية على الجناح العسكري والتصنيع الحربي، مروراً بمكافحة الارهاب، الى تسليم مطلوبين وذاتيات المقاتلين”.
وأوضح أن “سبب التغير بموقف الجولاني تجاه رفيق دربه يعود إلى خوفه من تقويض سلطته في إدلب”، مشيراً إلى أن “إحدى الإفادات تتهم القحطاني بمحاولة الإطاحة بقيادة الهيئة، بعد إخطار إحدى الدول الغربية بذلك، إضافةً إلى تهديدات من قيادات رفيعة في الهيئة بالتحرك إن تجاهل الجولاني محاسبة القحطاني”.
“الجولاني يعلم أن جل قيادات الصف الأول في الهيئة على رأسهم المسؤول الأمني العام على تواصل وتنسيق مع أجهزة استخبارات، ولكن صراع الأجنحة داخل الهيئة واستغلالهم لملف العمالة أجبره على اتخاذ موقف”، بحسب قول “مزمجر الشام“.