كثرت الآراء التي تتحدث عن احتمال قيام القوات التركية و”الجيش الوطني السوري” بشنّ حربٍ على ما يسمى الـ PKK وقوات سوريا الديمقراطية، التي يشار إليها اختصاراً ب “قسد”.
لقد تعددت تصريحات المسؤولين الأتراك حول المناطق التي ستشملها الحرب في مرحلتها التالية، وهي مناطق منبج وعين العرب وتل رفعت، في وقت بدت الدول المنخرطة بصورة مباشرة في الصراع السوري ضدّ هذه الحرب، دون أن تقدّم بديلاً مقنعاً للأتراك عن الحرب.
وزير الدفاع الأمريكي أوستن اتصل بنظيره وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، وأبلغه رفض ومعارضة الولايات المتحدة لشن تركيا الحرب على ما يسمى قوات سوريا الديمقراطية، وهي في الحقيقة واجهة عسكرية لـ PKK الذي يشن عمليات إرهابية داخل الأراضي التركية، ومن الأراضي العراقية والسورية ضد الأتراك.
الرفض الأمريكي يقوم على قاعدة السياسة الأمريكية، التي يمكن تلخيصها حيال تركيا، بأنها سياسة منع الأتراك من تحقيق نهضتهم الاقتصادية والعسكرية والعلمية، وذلك كي لا تتحول تركيا إلى قوة إقليمية ودولية مؤثرة، تفرض سياسات تتوافق ورؤيتها نحو عالم متعدد الأقطاب، حيث ستؤثر هذه السياسات على مبدأ الاحتواء الأمريكي لمنطقة الشرق الأوسط وشرقي آسيا.
الرفض الأمريكي يحتاج إلى أداة تنفيذية تُزعج تركيا، وليس هناك من يزعج هذا البلد غير إرهاب حزب العمال الكردستاني (PKK)، الذي يطالب بفصل جنوب شرقي تركيا، لمصلحة مشروعه إقامة دولة كردية على أراضٍ تُقتطع من تركيا وسوريا والعراق وإيران.
حزب العمال الكردستاني تضعه الولايات المتحدة على لائحة القوى والحركات الإرهابية، ومع ذلك تُغمض عينيها قصداً عن اعتداءاته على تركيا، لأنه باختصار يحقق المصلحة الأمريكية باستنزاف تركيا، وهذا ما يدفع الأمريكيين إلى دعم هذه الأداة بالسلاح، ومنع تصفيتها بحجة محاربة إرهاب داعش.
كذلك عمل الروس على ثني تركيا عن شنّ حرب ضد ميليشيات قسد وفق رؤيتهم، التي تقترح أن تحلّ قوات تابعة للنظام من الفرقة الخامسة المؤيدة لروسيا محل ميليشيات قسد، لكن هذا الاقتراح رفضته الميليشيات، لأنه ببساطة يشلّ قدرتها على إزعاج الدولة التركية، ويمنعها من تثبيت ما تسميه الإدارة الذاتية.
الروس يضعون في حساباتهم لإضعاف قسد أن تدخل ميليشيات النظام وحلفها الإيراني والروسي بديلاً عن هؤلاء، إلى المناطق التي تريد تركيا طرد قسد منها، دون أن ينفذوا التزاماتهم حيال إبعاد الميليشيات المعادية لهم عن الحدود التركية لمسافة ثلاثين كلم عمقاً.
الإيرانيون هم أيضاً يرفضون أن تقوم القوات التركية بطرد الميليشيات القسدية من مناطق منبج وتل رفعت وعين العرب، فهم يرون أن التمدد التركي جغرافياً سيجعلهم لاعباً رئيسياً في أي حل سياسي خاص بالصراع في سورية، وهو أمرُ يُضعف قدرة تأثيرهم على الجغرافية السورية، وتحديداً في مناطق شرق الفرات (الجزيرة والفرات)، والذي يمرّ فيه ما يسمى هلالهم الشيعي، الذي يجهدون أنفسهم لتثبيته في هذا المناطق تأميناً لطموحهم بأن يكون لهم إطلالة على البحر المتوسط عبر الشواطئ اللبنانية والسورية.
أمام هذه الحقائق على الأرض، ما الذي يمكن أن تفعله تركيا لحماية أمنها القومي، وهل تستطيع تحقيق ذلك عبر ضغوط روسية عليها بالتقارب مع النظام الأسدي، أم أن حكومة رجب طيب أردوغان تناور إعلامياً وعبر حشودها العسكرية في سورية، للحصول على مكاسب دون حربٍ
إن الأمن القومي التركي يرتبط بالضرورة بجزء منه بمناطق الشمال السوري برمتها، وهذا يتطلب حسابات سياسية وعسكرية صحيحة، وهو ما تفعله الحكومة التركية، إذ أنها بطرحها التقارب وتصحيح العلاقات مع النظام الأسدي، إنما تسحب ورقة من يد المعارضة التركية، وهو لا يعني إغماض العين عما فعله هذا النظام بحق السوريين، الذين لجأ قرابة أربعة ملايين منهم إلى تركيا طلباً للحماية من وحشية نظام الأسد.
الحكومة التركية التي تقترب من استحقاقات الانتخابات صيف عام 2023، لن تُقدم على خطوة عسكرية غير محسوبة النتائج في الميدان، أو على مستوى ردّ الفعل الدولي على هذه الخطوة، حيث أنها لن تحتمل مواجهات ذات طابع دبلوماسي وسياسي وعقوبات اقتصادية عليها، إذا ما نفّذت خطتها بطرد قسد من المناطق الثلاث، التي تعتبر وجود قسد فيها تهديداً لأمنها القومي، بسبب إطلاق صواريخ والقيام بعمليات قصف مدفعي منها.
الحكومة التركية ستلجأ إلى تنفيذ العملية إذا أحست أن عمليات ميليشيات ال PKK تهدد الأمن التركي بصورة جدية، وأن عدم سحق هذا التهديد سيخسر حزب العدالة والتنمية الحاكم فرصة التجديد له في الانتخابات القادمة.
وفق هذا المنظور، نعتقد أن تركيا قد تذهب في أحسن الأحوال إلى عملية محدودة في تل رفعت، وفي هذه الحالة قد يُغمض الأمريكيون أعينهم عنها، وكذلك سيفعل الروس، بينما ستبقى باقي المناطق المقترحة تركياً خارج العمليات العسكرية في الظروف والتوازنات الحالية، وقد يلجأ الأتراك لشنّ عمليات أوسع ضد قسد قبل أيام من الانتخابات، إذا تيقنت حسابات العدالة والتنمية الحاكم من أن طرد ال PKK من منبج وعين العرب سيوفر لهم فرصة متينة وحاسمة في تحقيق انتصار في الانتخابات القادمة، رغم أنهم خارج معطى محاربة قسد وال PKK قادرون على هزم المعارضة التركية المشتتة والضعيفة.
ويبقى السؤال الرئيسي، هل لاتزال الحكومة التركية تفكّر بتوفير منطقة آمنة على حدودها مع سورية، من أجل عودة اللاجئين السوريين المقيمين على أراضيها إلى هذه المنطقة؟ أم أن الأمر لا يزال بحاجة إلى توافقات دولية بتثبيت الأوضاع الحالية في كل المناطق، وفرض وقف لإطلاق النار ريثما يحين استحقاق الحل السياسي في سورية وفق القرار 2254؟
وهل هذه المنطقة الآمنة على علاقة بطرد الـ PKK وقسد من منبج وعين العرب وتل رفعت؟
أسئلة كثيرة لا إجابات عليها في ظل الوضع الدولي الحالي، الذي لا تزال فيه الحرب العدوانية الروسية على أوكرانيا مستمرة، لذا لا شيء في الأفق غير الممكن بحدّه الأدنى، أما الضروري فهو يحتاج إلى ظروف وشروط أخرى ليست موجودة بعد.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت