لم يأت قرار حكومة الأسد برفع سعر الخبز مفاجئاً للعديد من المراقبين، إذ يعد انعكاساً لسياسة تنتهجها منذ سنوات تقتضي بتقليص الدعم عن العديد من السلع الأساسية.
هذا الاتجاه بدأ يتضح جلياً من خلال تصريحات مسؤولي حكومة الأسد، والقرارات التي تُعلن بين فترة وأخرى.
في أغسطس/ آب العام الماضي، وصف وزير الاقتصاد في حكومة الأسد، محمد سامر خليل، سياسة الدعم بأنه “آلية غير فاعلة”، و”مضرة” ليس فقط للاقتصاد الوطني والمالية العامة ولكن أيضاً للأفراد بشكل مباشر.
كما أشار إلى أن الاستمرار في تقديم الدعم المالي بالصورة الحالية، يُعد غير قابل للاستمرار بسبب العجز المالي الكبير الذي يترتب عليه، مؤكداً أن اتخاذ قرارات بشأن الدعم يأتي بغرض “مصلحة الناس واقتصاد الوطن”.
كما رافق التصريحات سلسلة من الإجراءات التي شملت رفع أسعار المحروقات وتعديل الرواتب واستبعاد فئات محددة من المجتمع السوري من الحصول على الدعم.
ويشير ما سبق إلى مسار واضح تتخذه حكومة الأسد نحو تقليص الدعم عن السلع الأساسية وتحرير أسعارها، مما يفرض على المواطنين تحمل أعباء معيشية أكبر.
الخبز.. خط أحمر؟
لم تكن عبارة “الخبز خط أحمر” التي كثيراً ما رددها مسؤولو النظام في سورية منذ عقود، عبارة عن توفير المادة الأساسية للمواطنين، وإنما تحمل دلالات سياسية تهدف إلى ضمان الولاء والدعم الشعبي للنظام.
لكن بعد 2011 بدأت حكومة الأسد بالتخلي عن هذا الشعار، ورفعت سعر المادة سبع مرات، كان أولها في أغسطس/ آب 2013 من 15 إلى 19 ليرة، ثم في يوليو/ تموز 2014 من 19 إلى 25 ليرة سورية.
وفي يناير/ كانون الثاني 2015 أصبح سعر الربطة 35 ليرة سورية، وفي أكتوبر/ تشرين الأول من نفس العام رُفع سعرها من 35 إلى 50 ليرة، وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2020 ارتفع سعرها إلى 100 ليرة، قبل أن تصبح في يوليو/ تموز 2021 بسعر 200 ليرة.
وأصدرت وزارة التجارة في حكومة الأسد، أمس الاثنين، قراراً رفعت بموجبه سعر مبيع ربطة الخبز بوزن 1100 غرام للمواطن من 200 إلى 400 ليرة سورية، في الأفران العامة والخاصة، كما رفعت سعر مبيع ليتر المازوت للأفران من 700 إلى 2000 ليرة سورية.
واعتبرت الوزارة، في منشور عبر حسابها في “فيسبوك“، أن “السعر الجديد ليس رفعاً لسعر الربطة، بقدر ما هو مساهمة من المواطن في تحمل جزء بسيط من عبء التكلفة لضمان استدامة تدفق وتوفر هذه المادة الأساسية”.
وقال الباحث الاقتصادي نبيل مرزوق لـ”السورية. نت” إن “شعار الخبز خط أحمر هو شعار قديم، كانت الحكومات السابقة في نظام حزب البعث تلتزم به، لأن الشارع كان يتحرك بقوة، تجاه ما يمس معيشة المواطن وحياته اليومية، ولكن تدريجياً بدأ نظام الأسد يتحلل من هذا الالتزام الوطني والاجتماعي”.
وبينما يرى الدكتور في العلوم المالية والمصرفية فراس شعبو، أن رفع الخبز يأتي ضمن سياسة ينتهجها النظام منذ سنوات، وهي رفع الدعم رويداً رويداً عن كافة المواد، يرجع المحلل الاقتصادي، يونس الكريم، القرار إلى عدة أسباب.
ويرى الكريم في حديثه لـ”السورية.نت”، أن قرار رفع سعر الخبز يعود إلى 2008 عندما بدأت حكومة الأسد بوضع خطة برفع الدعم عن السلع، وتحويل الاقتصاد إلى حر، إلا أن اندلاع الثورة أوقفت المخطط.
لكن خلال السنوات الماضية، وعقب سيطرة أسماء الأسد، زوجة بشار الأسد على مفاصل الاقتصاد، حسب الكريم، أعيد طرح موضوع الذي يهدف إلى تحرير الاقتصاد وتحويله إلى “اقتصاد سوق”.
وأشار الكريم إلى الأسباب التي دفعت حكومة الأسد إلى رفع الخبز، أولها انخفاض كميات إنتاج القمح بشكل كبير في مناطق النظام، بعد سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” على مناطق شمال شرق سورية، التي توصف بأنها خزان محصول القمح، حيث تنتج أكثر من 65% من إنتاج سورية العام.
ودفع ذلك حكومة الأسد إلى استيراد القمح، وخاصة من روسيا عبر خط ائتماني، وطرحت عدة مناقصات لاستيراد آلاف الأطنان، خلال السنوات الماضية.
وحسب تصريح مدير عام المؤسسة السورية للحبوب التابعة لحكومة الأسد، عبد اللطيف الأمين، في أغسطس/ آب الماضي، فإن كميات القمح التي تم شراؤها من الفلاحين بلغ 711 ألف طن فقط.
في حي تبلغ حاجة حكومة الأسد من مادة القمح مليونين و200 ألف طن سنوياً، أي أن المؤسسة بحاجة إلى شراء نحو مليون ونصف المليون طن من القمح.
وأشار الكريم إلى أن شراء القمح من روسيا ومنع التجار من استيراده، إضافة إلى السياسات المالية والنقدية التي انتهجها النظام وقيد التعامل بالدولار، أدى إلى عجز النظام على سداد قيمة شراء القمح.
ومن الأسباب أيضاً، حسب الكريم، هي سيطرة روسيا على المطاحن الخاصة في سورية، في حين لم يبق لدى حكومة الأسد سوى مطاحن تابعة لمؤسسة التموين، تتميز باستهلاك آلاتها ما يؤدي إلى هدر كبير في عملية الطحن.
أرقام تكشف “انهيار الدعم”
من خلال أرقام الدعم الاجتماعي في الموازنة العامة منذ 2012 وحتى موازنة 2024، تظهر “انهيار منظومة الدعم الاجتماعي”، حسب دراسة للباحث الاقتصادي في مركز عمران، مناف قومان.
ويدخل ضمن الدعم الاجتماعي في الموازنة العامة الدعم الزراعي والمتشتقات النفطية والخميرة (الخبز) إلى جانب قطاعات أخرى.
وكان حجم الدعم الاجتماعي في 2012 يبلغ 5.51 مليار دولار، و3.96 مليار دولار في 2014، و80 مليون دولار في 2017، و40 مليون دولار في 2020، و1.68 مليار دولار في 2021، و94 مليون دولار في 2023.
أما قيمة الدعم الاجتماعي، وفق موازنة 2024 التي أقرها نظام الأسد في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بلغت نحو 437 مليون دولار.
ويقول الدكتور في العلوم المالية والمصرفية فراس شعبو لـ”السورية.نت” إن النظام اليوم بدأ مرحلة جديدة وهي التخفيف من الأعباء، كونه غير قادر على سداد التزاماته.
وبالتالي “زيادة الخبز والأسعار والضرائب هي سياسة ينتهجها النظام، وتقوم على تخفيف النفقات وزيادة حصيلة الإيرادات”، حسب شعبو.
ووصف شعبو التضخم في سورية بـ”المرعب”، معتبراً أن الخبز أصبح عبئاً على النظام لأن الشعب السوري يعتمد عليه بشكل أساسي في عملية الغذاء، فأصبح هناك استهلاك أكبر، والنظام لم يعد لديه القدرة على سداد فاتورة الدعم.
وقال مدير السورية للحبوب في حكومة الأسد، سامي هليل، لصحيفة “تشرين” الحكومية، إن “تكلفة ربطة الخبز وصلت إلى 7800 ليرة، ويصل رقم الدعم اليومي للخبز ما يعادل 42 مليار ليرة، وبدعم سنوي يفوق 13 تريليون ليرة”.
ونتيجة لذلك توقع يونس الكريم، أن ارتفاع سعر الخبز لن يكون الأخير، وإنما هناك “تدرجات في ارتفاع السعر قد نشهدها على مراحل”.
من جانبه اعتبر مرزوق أن نظام الأسد “لايهتم بالاصلاح لأنه قد يولد له قوى معارضة ويفضل بالتالي عصبة من المنتفعين الفاسدين، تستمد قوتها ونفوذها منه، ويضيق في نفس الوقت على الصناعيين والتجار الذين لايثق بولاءهم، كي لايصبحوا قوة اقتصادية مهيمنة تسبب له متاعباً لاحقاً”.
وبحسب مرزوق فإن ذلك أدى إلى المزيد من ضعف الإنتاج واستعادة النمو الاقتصادي، الذي يعتبر المصدر الرئيسي، الذي يجب أن تستند الحكومة إليه لتحصيل الموارد الضرورية لسير عملها وتقديم الخدمات للمجتمع، مؤكداً أن “نقص الموارد يدفع الحكومة لتقليص الانفاق”.
رفع الرواتب لامتصاص الصدمة
خلال المرات السابقة التي رفعت فيها حكومة الأسد لسعر الخبز، أعقبه مباشرة مرسوم بزيادة الرواتب، في محاولة لامتصاص غضب الشارع.
وكان بشار الأسد أصدر، أمس الاثنين، مرسوماً نص على زيادة 50% إلى الرواتب والأجور المقطوعة للعاملين المدنيين والعسكريين.
ويرى شعبو أن زيادة الأجور لم تكن مدرجة على لوائح الحكومة وفي الموازنة العامة، ما يدل على أن “القرارت تأتي ارتجالية من فوق دون وجود أي تخطيط” اقتصادي.
ويقول شعبو إن النظام أدرك بأن الوضع المعيشي يزداد سوءاً، ورغم تثبيته سعر الصرف، إلا أن الأسعار لم تتوقف عن الارتفاع بشكل كبير، كون التضخم الحقيقي لا يقاس بسعر الصرف فقط، وإنما يقاس بسلة من الأسعار (السلة الاستهلاكية).
وأكد شعبو أن زيادة الأجور عقب رفع سعر الخبز هو “محاولة امتصاص غضب ورسالة بأن النظام موجود وقادر على التدخل”.
وأشار إلى أنه “مهما تم رفع الأجور، لكن ما زال ذلك دون حد الفقر الذي هو 70 إلى 80 دولار لكل مواطن”.
أما الكريم اعتبر أن زيادة الرواتب هي محاولة امتصاص الصدمة فقط، متوقعاً ارتفاع أسعار السلع بشكل كبير، وبالتالي زيادة العبئ على المواطن.
بدوره توقع الباحث الاقتصادي نبيل مرزوق “تعرض عموم المواطنين لموجة جديدة من الغلاء، وارتفاع في تكاليف المعيشة، وهذا سوف يزيد من فجوة الفقر، لأن اتساعها قد شمل أكثر 90% من الشعب السوري”.