بين فترة وأخرى، وعلى وقع تعثّر خطط روسيا العسكرية في حربها على أوكرانيا، يغير الرئيس فلاديمير بوتين أو يقيل “جنرالاته” القادة العسكريين، رغم حداثة تعييناتهم في مناصبهم ومراكز تموضعهم الميدانية على الأراضي الأوكرانية. والملاحظة اللافتة للانتباه هنا أنّ معظم هؤلاء المعينين، والمقالين، كانوا في مواقع عسكرية، وخاضوا تجاربهم وتمرّنوا في الحرب ضد السوريين العزّل من السلاح، منذ التدخل الروسي العسكري المباشر في سورية عام 2015، ضد المعارضين والمتضرّرين من نظام بشار الأسد، فقتلوا ودمروا وشرّدوا سوريين كثيرين، لم يستطيعوا الدفاع عن أنفسهم، ولم يقدّم المجتمع الدولي خلال 11 عاماً أي قراراتٍ ملزمةٍ لروسيا والنظام السوري وداعميه من المليشيات الإيرانية والطائفية تنهي أعمالهم القتالية في سورية. وعلى الرغم من التصريحات الأميركية والغربية عن وجود خطوط حمراء لن يسمح بتجاوزها، كاستخدام الأسلحة الكيميائية، فقد ثبت تعدّد استخداماتها من النظام السوري ضد مناطق المعارضة السورية، بل بدا كأنّ الخطوط الحمراء في سورية هي إشارات خضراء، وأنّ الأطراف الدولية المعنية أولجت لروسيا بوتين مهمة اللعب في سورية، إن لتوريطها، أو للاستثمار في دورها، بما يخدم فكرة ضمان أمن إسرائيل في محيطها الاستراتيجي في المشرق العربي عقوداً.
تغيّر المشهد الدولي في 24 فبراير/ شباط، أي قبل ثمانية أشهر تقريباً، واستعادت الأطراف الأميركية والأوروبية موقعها لاعباً فاعلاً، تاركة مقاعد المتفرّجين والمندّدين، فبدا مسرح العمليات الأوكراني مختلفاً تماماً عن مسرح العمليات السوري (منذ التدخل العسكري في سبتمبر/ أيلول 2015)، وحتى عن مسرح العمليات في الحرب الشيشانية وتدمير غروزني (أواخر التسعينيات)، واقتطاع منطقتين (أبخازيا وأوسيتيا) من جورجيا (2008)، وضم شبه جزيرة القرم مع دعم انفصاليي الدونباس على حساب أوكرانيا (2014). ففي كلّ تلك “المسارح”، ترك المجتمع الدولي للجيش الروسي حرية الحركة والمساحة للعمل فيها، مكتفياً بإدانات إعلامية وعقوبات اقتصادية أقرب إلى منطق “رفع العتب” أمام الشعوب المنكوبة، ما ترك المجال لبوتين للإمعان في الهجمات الوحشية بالصواريخ وبقذائف المدفعية وبالقصف الجوي، وكأن الأمر مجرّد تمرين عسكري، في حقل رماية، من دون مبالاة بحياة البشر، وعمرانهم.
لقد صوّرت موسكو حروبها كأنها أفلام دعائية لمقدرات قواتها العسكرية، بل إن بوتين ذاته، ووزير دفاعه، لطالما اعتبرا تلك “التمارين” كإعلانات تجارية لأسلحتهما، في تشدّقهما المتكرّر أنهم جرّبوا أكثر من ثلاثمائة نوع من الأسلحة في سورية، وأن عشرات الجنرالات وعشرات الألوف من العسكريين تدرّبوا في ذلك البلد، أي باللحم الحي للشعب السوري، الذي لم تكن لديه أسلحة ولا قوة عسكرية، ولا مضاد طائرات واحد، ولا قائد يمشون خلفه. هكذا، ففي مسرح العمليات الأوكراني الحالي، تبيّن، منذ البداية، أن الوضع مختلف، سواء بالنسبة لجاهزية الشعب الأوكراني لصد الغزو الروسي، أو بالنسبة لتفاعل الأطراف الدولية والإقليمية وطبيعة ردّة فعلها، وإغداق المساعدات العسكرية، على اختلاف أنواعها وتوظيفاتها، ما أسهم في توازنٍ حقيقيٍّ بين القوتين المتصارعتين ميدانيا، خلافاً لما جرى في سورية التي بقيت فصائلها المسلحة المعارضة لنظام الأسد في حالة عجز عن الدفاع أو تحقيق النصر للثورة التي ادّعت مناصرتها، بل استخدمت تلك الفصائل كأنها ذريعة لروسيا وإيران والنظام السوري في استمرار عدوانهم العسكري على المناطق السورية المعارضة.
الانتصارات على الشعب الأعزل التي حققتها روسيا في معاركها في سورية صعبت على الرئيس الروسي فهم حيثيات إخفاق جيشه بإسقاط نظام الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، أو احتلال العاصمة كييف، أو فهم مغزى صمود الجيش الأوكراني، في استيعابه الهجمات الأولى، ثم في استبساله بتوجيه ضرباتٍ موجعة للقوات الروسية، وبعدها نجاحه في استرجاع مناطق عديدة خسرها في بداية الغزو، طبعا من دون إغفال دور السلاح الغربي المتطوّر الذي فتحت بوابات مستودعاته على مصراعيها لأوكرانيا.
تماماً مثل ما أنه لم يستوعب مغزى ردّة فعل المجتمع الدولي، لا سيما الدول الأوروبية والولايات المتحدة، وعزلته الفاضحة في الأمم المتحدة، إذ دانت غزوه 141 دولة، ولم تقف معه سوى بيلاروسيا، والنظام السوري، وكوريا الشمالية وأريتريا، الأمر الذي تكرّر في الأيام الماضية، إذ دانت 143 دولة قرارات ضمّه مناطق من أوكرانيا، ولم تؤازره سوى بيلاروسيا والنظام السوري وكوريا الشمالية ونيكاراغوا (حتى إيران نأت بنفسها وامتنعت عن التصويت من باب المواربة والمخاتلة والمصلحة). وبدلا من استيعاب ذلك كله وتدارك الأمر، هرب بوتين إلى الأمام، أي إلى مزيد من الحرب، وتاليا مزيد من الغرق في “المستنقع” الأوكراني، ومزيد من التورّط في اعتباره أن الصراع ضد الغرب، وليس ضد أوكرانيا وحدها، وعلى أساس أنه يريد تغيير النظام الدولي، وفرض عالم متعدّد الأقطاب، ضمن منظوره بإخضاع العالم لمنطقه في اقتطاع أراض من دولةٍ ذات سيادة وضمّها إلى دولته الشاسعة!
لم يستوعب بوتين أو لم يدرك أن اللعبة اختلفت، وأنّ الخط الأحمر في أوكرانيا هو أحمر فعلياً، وليس أخضر كما كان الحال في سورية ومع بشار الأسد، وفي الغوطة تحديداً في 21 أغسطس/ آب 2013، وأن زمن السماح، أو التوظيف أو الاستثمار الدولي، لروسيا انتهى، إذ اعتبر غزوه أوكرانيا عدوانا على الدول الأوروبية كلها، وعدواناً على قيم أوروبا (حقوق الإنسان والديمقراطية) وعلى نمط عيشها وسلمها، وما زاد الاستنفار الدولي ضد بوتين تلويحه أكثر من مرّة بأنّ روسيا دولة نووية، وأنّ أيّ حلٍّ للحرب يقتضي الإذعان لضمّها مناطق من أوكرانيا.
من ذلك كله، لا يبدو أنّ الطرفين، أي روسيا من جهة، وأوكرانيا من جهة أخرى (ومعها أوروبا وأميركا) سيتوصلان إلى حلول قريبة تنهي ذلك الصراع الدامي، الذي شرّد الملايين، وتسبّب بخسائر اقتصادية فاضت عن روسيا وأوكرانيا إلى العالم، في ارتفاع الأسعار، والتضخّم النقدي وأزمة الطاقة، والإحساس بالخوف القادم من جنون الحرب.
وباختصار، لم يعد ما يجري يتعلق بمصير أوكرانيا فقط، بل بات يتعلّق أكثر بمصير روسيا ذاتها، صورتها، ومكانتها، وشكل تموضعها، في العالم. وما لم يدرك بوتين هذا الواقع الصعب، فستجبره التطورات على إدراك ذلك، بطريقة أو بأخرى، وكلما تورّط أكثر وكلما تعنّت أكثر، غرق أكثر، وغرقت روسيا معه. وفي هذه الحال، ما الذي لدى أنظمة بيلاروسيا وسورية وكوريا الجنوبية ونيكاراغوا وإريتريا ومعها ايران، كي تقدّمه له، وحتى الصين، لن تستطيع، أو لا يمكنها، أو لا تريد أن تقدّم له شيئاً على حساب مصالحها مع العالم، كلّ العالم.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت