يترقب الجميع نتائج التجاذب والتصادم الروسي التركي في الشمال السوري بشيء من الحذر والتوجس والتخوف، وبقليل من الأمل بتوقف المقتلة السورية ولو لبضعة أشهر. إذ يجمع غالبية المحللين على عدم رغبة كلا الطرفين في تطور الأمور بينهما نحو مواجهةٍ عسكريةٍ شاملة، حرصاً على مصالحهما المشتركة، وهو ما يغفل بعض الحقائق، مثل أن تحالفهما هو خيار بديل فرضته الظروف عليهما معا، وذلك بحكم التلاعب الأميركي، وتنافسهما الشديد في المنطقة، ما سوف يفرض عليهما تقديم تنازلاتٍ جمّة إن أراد الطرفان حقا تجنب مواجهةٍ مفتوحة اليوم أو غداً. الأمر الذي يجعلنا نعتقد بعزمهما على الموازنة بين الصدام أحيانا والتقارب في أحيان أخرى، على أمل أن ينجح أحدهما في إزاحة الآخر، والاستحواذ على كامل السلة الاقتصادية والجيوسياسية والأمنية طبعاً.
وتنعكس ضبابية المشهد التركي الروسي على المشهد السوري في الأوساط الباحثة عن المصلحة الوطنية العليا على شكل انقسامٍ بين رؤيتين أساسيتين، يمثل طرفها الأول بعض المتحمسين للغة الثأر الذين ينشدون أي هزيمة عسكرية لمعسكر النظام، مهما ارتفع ثمنها، وأيا كانت نتائجها عسكريا وأمنيا واجتماعيا، بل حتى لو كان الواقع الجديد مشابها حد التطابق لما سبقه، بل ولا يضمن عدم معاودة القصف الجهنمي السوري والروسي بالحدّة والقوة نفسيهما، وربما أقوى بعد بضعة أشهر. أما الطرف الثاني فيعبر، بصوت خافت، عن عبثية التجاذب التركي الروسي، مهما تصاعد واشتد عوده، ويرى أن لا مصلحة سورية بذلك، بل على العكس يجد أن تسليم إدلب قد يكون مقدمةً لهزيمة الأسد ورحيله، نتيجة فشل الأسد في إدارة مرحلة ما بعد الحرب؛ وعجزه عن تلبية مطالب حلفائه الداخليين والخارجيين، كما عبر عن ذلك مقال غازي دحمان “تحرّروا من إدلب ليسقط الأسد” في “العربي الجديد” (25/2/2020)، وهي رؤية تستند إلى حقائق ومعطيات انتقائية، من وحي التجربة السورية مع نظام الأسد، كفشله على جميع الأصعدة باستثناء نجاحه أمنيا، أي نجاح الأسد في أسر السوريين وسجنهم وقمعهم، بل وقتلهم، لا سيما بعد اندلاع الثورة.
ويكمن إرباك وتشويش كلا الرؤيتين في اجتزائهما للواقع، وإهمال جملة من الحقائق التي تضرّ مصلحة السوريين وتقوضها، فالمعارضة السياسية أو العسكرية التي يطالبها دحمان بمفاوضة الجانب الروسي على تسليم إدلب وباقي المنطقة المحيطة في مقابل الحصول على بعض الممكن، كما حصل في درعا، هي معارضة تابعة للجانب التركي، ونعلم جميعا أنها لا تملك قرار نفسها. وإن حدث وتجاوزت المعارضة تبعيتها، فإننا نعلم كذب الروس وتنصلهم من جميع الاتفاقات والتعهدات التي أبرموها مسبقا، سواء مع دول كتركيا، أو مع مجموعات سورية معارضة، كما حصل في درعا وريف دمشق الشرقي وحلب، التي أدت إلى إطلاق يد النظام في هذه المناطق كي تنهب وتسرق وتقتل وتعتقل من دون حسيب أو رقيب، ما يجعلنا نتساءل عن مدى وحشية وقسوة المصير الذي سوف ينتظره المدنيون الموجودون اليوم في إدلب ومحيطها، وفق هذا السيناريو الافتراضي.
ولو فرضنا جدلا توقف آلة القتل والنهب الأسدية، بعد اتفاق المعارضة مع الروس على تسليم إدلب، وفشل الأسد الساحق في مرحلة ما بعد الحرب، وتزايد حدّة الصراعات داخل العصابة الحاكمة، ألن يقود ذلك إلى استبدال الأسد بشخصيةٍ مشابهةٍ وتابعة؛ كالأسد تماما؛ للروس وربما للإيرانيين أيضا، من دون أي تغيير على معيشة السوريين وظروفهم. وبالتالي، لا يمكن اعتبار سقوط الأسد مع بقاء المنظومة الأمنية والاستبدادية والإجرامية نفسها، والمافيا الحاكمة نفسها، وفي ظل قوى خارجية تحتل الأرض وتسيطر على كل شيء، انتصارا للثورة أو حتى للشعب السوري، لأنه سقوط خادع وكاذب، لا ينطوي على أي تغيير حقيقي يلبي مصالح السوريين وتطلعاتهم في وطن تسوده قيم الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة.
من جهة أخرى، نستطيع تفهم مشاعر المهجّرين والمشرّدين من إدلب وما حولها، وكل من شرد أو هجر سابقا، أو تعرّض لموجات القصف الجنونية المجرمة، وكل من فقدوا عزيزاً وقريباً على يد قوات الأسد وداعميه، إن عوّلوا على تدخل عسكري تركي قد يوجّه ضربة قاصمة ومهينة للأسد ورجاله، ظانين أنها من أنواع الثأر أو القصاص من القتلة والمجرمين، من دون أن يساق هذا لتبرير تحليلات سياسية مضللة تستجدي التدخل التركي، وتصوره انتصارا للثورة، وتغفل فضح مسؤولية الأتراك وحاشيتهم عما نحن فيه اليوم، كما تغفل ذكر أسباب تدخلاتها الحقيقية التي قد لا تختلف كثيراً عن أسباب التدخل الروسي بذريعة مواجهة الإرهاب، فكلا التدخلين لا يقيم أي وزن أو اعتبار لمصالح السوريين وحقوقهم الآنية والمستقبلية، بل يعمل على سحقها كليا من أجل تحقيق مصالحهم الاقتصادية والسياسية والأمنية، عبر فرض قوى أمر واقع تابعة لهم، لها الصفات والسمات نفسها، وإن اختلفت الوجوه والأشكال، ولنا في تجارب السنوات الثورية الماضية دليلا كافيا ووافيا على ذلك.
في الختام، يجب أن نعترف بأن الخيارين المذكوريْن يمثلان مسارات محتملة لا نملك القدرة على اختيار أي منها، فكلاهما خاضع للعبة التفاهمات والتجاذبات الدولية، وكل منهما سوف يأخذ سورية والسوريين إلى مرحلة جديدة، خالية من حقوق السوريين ومصالحهم. مرحلة تعبر عن واقع بتنا نعرفه جيداً، وإن تجاهلنا الاعتراف به أحيانا، مفاده أن جميع السوريين خاضعون اليوم لسيطرة قوى احتلال خارجية متعدّدة؛ روسية وتركية وأميركية وإسرائيلية و…؛ ذات أدوات داخلية رجعية وطائفية واستبدادية وإجرامية، لا تختلف في ما بينها قيد أنملة. وعليه، يتمثل الخيار الوحيد الذي نمتلك ترف اختياره في إقرارنا بضرورة العودة إلى ذاتنا الفردية والجماعية، من أجل استنهاض قواها الثورية الوطنية، ومواجهة الواقع المزري بكل ما أوتينا من قوة، استنادا إلى فجاجة الواقع السوري الراهن الذي أثبت لجميع السوريين، مؤيدين ومعارضين، أن لا طائل يذكر من الاستقواء بعضهم على البعض الآخر بأيٍّ من قوى الاحتلال الخارجية، فضريبة هذه التدخلات يدفعها جميع السوريين من دمائهم وحريتهم وحقوقهم وثرواتهم.
المصدر
العربي.الجديد
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت