تعتبر الفصائلية العسكرية القائمة في الشمال السوري، حالة ضعف في معادلة مواجهة النظام الأسدي، كما أنها ضعفٌ في بناء ركائز الاستقرار العام في هذه المنطقة. وحين نتحدث عن الاستقرار، فنحن نقصد الاستقرار السكاني وشروطه الموضوعية، بما يسمح لاحقاً بنشوء تنمية شاملة جزئية، هذه الشروط تتعلق بالجانب الأمني والقضائلي، وتتعلق بتوفير أرضية لممارسة حرية الرأي والعمل السياسي، كما تتعلق بوضع خطة اقتصادية منتجة، تستطيع تطوير الحالة الاقتصادية، وتحسين مستوى الدخل، وهذا يحتاج إلى وجود فاعلٍ لضمانٍ لهذا الاستقرار.
إن مفهوم “استقرار” لا يعني وقف إطلاق النار بين الفصائل في المناطق المحررة، وبين النظام الأسدي وميليشياته، وكذلك بينها وبين ما يسمى (قوات سوريا الديمقراطية). فوقف إطلاق النار هو حاجة للسوريين في كل مناطقهم، في ظل انعدام أي حلٍ سياسي أو حسمٍ عسكري من قبل أي طرف من الأطراف، ولهذا تبدو الشروط الموضوعية للاستقرار في مناطق الشمال أكثر إلحاحاً في ظلّ هذا الجمود السياسي للقضية السورية.
الاستقرار العام في مناطق الشمال المحرر يقتضي وضع رؤية متكاملة للنهوض بهذه المناطق بكل المناحي، قبل أن تصبح عبئاً على قوى الثورة والمعارضة بشقيها السياسي والعسكري، وتؤدي إلى تراجع عميق على مستوى الاحتفاظ بها، فعدم وجود إطار سياسي واحد يقود هذه المناطق بطريقة شرعية، سيزيد من الصراعات البينية التي قد تنشأ بين هذا الفصيل أو ذاك كما جرى في الآونة الأخيرة.
حين نقول بضرورة وجود إطار سياسي شرعي في مناطق المحرر، فنحن نقصد أن يتم الاتفاق عبر ائتلاف قوى الثورة والمعارضة، وعبر الحكومة المؤقتة على وضع وثيقة شبه دستورية مؤقتة، تتفق عليها القوى المدنية والعسكرية الموجودة في هذه المناطق، حيث ستنظّم هذه الوثيقة طريقة إدارة المناطق المحررة في كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والأمنية والقضائلية وغيرها من القضايا، هذه الوثيقة لا يجب أن تتعارض مع وحدة التراب السوري، أو تمهّد لاحتمال نشوء دويلة مستقلة، وهذا ما سيتم بحثه مع الطيف السياسي الواسع ومع منظمات المجتمع المدني المختلفة ومع ممثلين عن الفصائل العسكرية.
إن وجود وثيقة شبه دستورية متفق عليها، هي من تضع آليات انتخاب برلمان محلي مؤقت، وصلاحيات هذا البرلمان، وكذلك كيفية تشكيل الحكومة المؤقتة بعد الانتخابات. كذلك فهذه الوثيقة يجب أن تلحظ صلاحيات المجالس البلدية المحلية، وآلية انتخابها، والمهام الملقاة على كاهلها.
تنظيم الحياة السياسية وفق وثيقة شبه دستورية سيحيل الفصائلية العسكرية إلى مربع تشكيل جيش احترافي بقيادة عسكرية خبيرة، وهيئة أركان وهيئة استشارية، وكي لا يحدث تنازع بين الفصائل العسكرية والقوى السياسية، يمكن أن تلحظ الوثيقة شبه الدستورية أن يكون لهذه الفصائل نسبة تمثيل في المرحلة المؤقتة، ولتكن الثلث، وفي هذا اعتراف لها بما قدمته من تضحيات كبيرة بمواجهة النظام الاستبدادي والميليشيات الأجنبية المتحالفة معه والقادمة من خارج البلاد، أو مواجهة الميليشيات العابرة للوطنية مثل ميليشيا PYD و ميليشيا PKK، اللتان تعتبران تهديداً لوحدة سورية واستقرارها.
يجب أن تحدد الوثيقة شبه الدستورية مهام البرلمان المحلي، ومدة انتخابه، وأن تكون انتخاباته شفافة دون تدخلات من أحد، حيث تتم مراقبتها من مراقبين محايدين من خارج البلاد.
إن تحديد نسبة الثلث للفصائل العسكرية سيكون فقط في المرحلة المؤقتة، وبهذا تمنع هذه النسبة أي ارتداد إلى ما قبل تشكيل حالة الاستقرار السياسي.
إن وصول قيادات منتخبة بطريقة شفّافة إلى البرلمان، والذي ستبثق عنه حكومة مؤقتة يستطيع محاسبتها والتفتيش عليها ومتابعة إنجازاتها واخفاقاتها، هذه الحالة تساهم في ترسيخ الاستقرار بكل مناحيه المختلفة.
إن وجود قيادات سياسية وبرلمانية في مناطق المحرر، سيجعل منهما طرفاً في أي تفاوض على حلٍ سياسي في سورية، فهما جهتان تمثلان الشعب الموجود في هذه المناطق، ولا يستطيع النظام الأسدي أن يدّعي أن هذه القيادات هي غير شرعية، وبالتالي سيشكّل نموذج الاستقرار حالة جاذبة للسوريين، الذين أرادوا من ثورتهم أن يبنوا دولة مدنية ديمقراطية تعددية.
الاستقرار السياسي ضروري وهام لتنمية اقتصادية واجتماعية في مناطق المحرر، هذه التنمية لا يمكن بناؤها بغير هذا الاستقرار، وهناك من قال من قبل (رأس المال جبان)، أي لا يغامر أصحاب رؤوس الأموال ببناء مشاريع صناعية وزراعية وخدمية في ظلّ تعدد السلطات في المنطقة الواحدة، ونقصد سلطات الفصائل العسكرية في مناطق نفوذها.
إن الخلاص من الفصائلية يتطلب عملاً جبّاراً وتنازلات ضرورية من أجل بناء جيش وطني سوري واحد، له مرجعية واحدة، هي وزارة الدفاع وهيئة أركانها، ولهذا، فتشكيل هيئة استشارية تابعة لوزارة الدفاع من قادة الفصائل في الصف الأول والثاني سيساعد على بناء إطار عسكري واحد، وهذا ما يسعى إليه الضامن التركي بعد اجتماعه مع قادة الفصائل في غازي عنتاب منذ فترة قصيرة.
الخلاص من الفصائلية يعني تحويلها إلى مهامها الأساسية وهي الدفاع عن الشعب وصدّ العدوان عليه، وهذا يتطلب أن تذوب هذه الفصائل في فيالقها ذوباناً لا يُبقي أي تسمية فرعية خارج الفيلق وتقسيماته العسكرية المتعارف عليها.
الخلاص من الفصائلية يعني الخلاص من تعدد الأذرع الأمنية في مناطق المحرر، ففي الاستقرار السياسي سيكون هناك أجهزة مركزية متخصصة بالمهام، كأن يكون جهاز مخابرات عسكرية واحد لمنع اختراق وزارة الدفاع، وملاحقة الجواسيس الذين يحاولون اختراق مؤسسات الدفاع ونقل معلومات عنها، وكأن يكون هناك جهاز مركزي للشرطة العسكرية، وآخر للأمن العام.
إن بناء أجهزة أمنية متخصصة لا تتدخل بحياة المدنيين، وتتحدد مهامها بالوثيقة شبه الدستورية المؤقتة، سيساعد في استتباب الأمن في مناطق الشمال المحرر، وهو قاعدة للاستقرار بصورة عامة، ولذلك يجب أن تلحظ الوثيقة شبه الدستورية تشكيل أجهزة متخصصة محددة المهام، دون أن تتدخل بالنشاط السياسي أو الإعلامي أو الفكري الثقافي، لأن تلك النشاطات ستجد مرجعيتها في الوثيقة ذاتها، فلن يكون هناك أحزاب أو تيارات سياسية بدون قانون ينظم تشكيلها، كذلك يجب أن يكون هناك قانون للإعلام يحدّد حرية الصحافة ووسائل الإعلام المختلفة (مكتوبة مسموعة مرئية)، وينظم عملها.
إن استقلال جهاز القضاء ضرورة لسيادة العدل، فلا يمكن بناء حياة اقتصادية واجتماعية مستقرة بدون قضاء غير خاضع للحكومة أو لأي جهة ذات نفوذ، فاستقلاله يسمح بفرض العدالة ومنع انتهاك القانون وحقوق الناس، لهذا يجب أن يكون القضاء في مناطق الاستقرار قضاءً متخصصاً وليس قضاءً شرعياً وفق ما أطلق عليه في الفترة السابقة، بل قضاءً يستمد أحكامه من القوانين والأنظمة التي تحقق العدالة وتمنع التمييز بين الناس، فلا أحد فوق القضاء، أي لا أحد فوق الحق.
أما الاستقرار الاقتصادي فهو نتاج الاستقرار السياسي والأمني والعسكري، فلا اقتصاد في ظلّ الفوضى الأمنية، أو في ظلّ تعدد سلطات الأمر الواقع في المنطقة ذاتها، لهذا عندما يتم الانتقال إلى حالة الاستقرار أي استقرار تضمنه تركيا، فإن الحياة الطبيعية تبدأ بالنمو في الشمال المحرر وفق وثيقة شبه دستورية تنظم حياة هذه المناطق، ومن ضمن هذه الحياة الاقتصاد.
فالشمال المحرر بعد الاستقرار ستبدأ فيه دورة حياة اقتصادية جديدة، تشمل افتتاح مصانع ومعامل ومدناً صناعية منتظمة، تستند في انتاجها على خيرات هذه المناطق الزراعية أو ثرواتها الطبيعية، إضافة أنها توفر فرص عمل كثيرة للقوى العاملة في هذه المناطق.
إن جذب الاستثمارات بصورة آمنة سيحتاج إلى الاستقرار العام، وتحديداً السياسي والأمني، وهذا يجب العمل عليه منذ الآن، فالاستثمارات الخارجية لا تأتي إلى مناطق النزاع ومناطق الفوضى وعدم الاستقرار، كذلك لا تأتي إلى مناطق لا تحكمها قوانين حقيقية لا يمكن لسلطات الأمر الواقع تجاوزها.
الاستقرار الاقتصادي يعني التنمية المتدرجة، والتنمية المتدرجة تعني التطور العام في بنى المجتمع المختلفة، وهذا يعني سدّ فجوة الاحتياجات، فالاقتصاد يراكم الثروات، مما يؤدي إلى فتح أبواب نشاطات اقتصادية جديدة، تشمل قطاعات صناعية متطورة، وقطاعات انتاج زراعي متقدمة بشقيها النباتي والحيواني، وهذا سينعكس على حياة الناس ووعيهم، وتطور قدراتهم العلمية والثقافية والفكرية، فلا علوم حقيقية في ظل فوضى سياسية وأمنية في ظلّ تعدد سلطات الأمر الواقع في ذات المنطقة.
الاستقرار الاقتصادي يعني تبدل طرق الحياة الإنسانية من صورتها البائسة الحالية المعتمدة على المساعدات وعدم العمل، إلى صورتها الجديدة التي تنشأ من علاقات العمل بمختلف القطاعات، وهو ما يساهم في ردم الفجوات بين الناس بصورة عامة.
إن الاستقرار الاجتماعي ينتج من استقرار اقتصادي وليس العكس، وإن الاستقرار الاقتصادي ينتج من الاستقرار السياسي والعسكري والأمني وليس العكس، وأن الاستقرار السياسي والأمني يأتي من تذويب الفصائلية وتعدد الأذرع المتحكمة بحياة الناس في المناطق المحررة إلى بناء مؤسسات وطنية تخدم مجتمعها وتبني إنسانه على قواعد الحريات وحقوق الانسان والمبادرة الفردية والجماعية، وعلى تعميق مؤسسات التعليم بكل مراحلها بما يساعد على ردم الهوة الناشئة عن حرب النظام الأسدي ضد الشعب السوري.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت