كان لافتاً، ذاك التركيز على تهمة الفساد، في سياق تبرير محاولة “هيئة تحرير الشام”، اعتقال القيادي البارز المنشق عنها، جهاد عيسى الشيخ، المعروف بـ “أبو أحمد زكور”، في عملية جرت بمدينة إعزاز بريف حلب الشمالي. وهي المحاولة التي أجهضها تدخل قوة عسكرية وأمنية تركية، أوقفت رتل الهيئة، وحررت “زكور”، ونقلته إلى معبرٍ عسكري، على الحدود التركية – السورية.
فبيان الهيئة الصادر قبل يومين، استفاض في الحديث عن ضلوع “زكور” في “أعمال وتجارات مشبوهة مالياً”، مؤكداً توافر شهود عيان من “كثيرٍ من التجار”، بيّنوا تعرضهم للابتزاز من جانب أبو ماريا القحطاني، -القيادي العراقي المُعتقل على خلفية تهمة العمالة لصالح المخابرات الأمريكية-. وأشار البيان إلى أنه تم إرجاع “الحقوق في كل ما وصلنا من قضايا”، منوهاً إلى ورود اسم “أبو أحمد زكور”، إلى جانب “أبو ماريا”، في بعض قضايا الفساد المالي. وأنه تم استدعاؤه للتحقيق، ثم جرى عزله من منصبه في سياق الترتيب لمحاكمته.
وقد مرّ بيان الهيئة، مروراً عابراً على ورود اسم “زكور” في التحقيقات الأمنية الجارية في قضية “خلايا الاختراق” المتعاملة مع أجهزة استخبارات أجنبية. وهو ما يؤشر إلى استشعار قيادة الهيئة لتراجع أثر تهمة “العمالة”، بوصفها ذريعة لإقناع البيئة المحلية -خاصة من المقاتلين- بمبررات الهجمة الشرسة التي شنها “جناح بنش”، أقوى الأجنحة داخل الهيئة، ضد “جناح الشرقية” و”كتلة حلب”. وجاء هذا التراجع لأثر تهمة “العمالة”، بعد تداول تسجيلات منسوبة لـ “زكور” يتحدث فيها عن تواصل زعيم الهيئة، أبو محمد الجولاني، بشكل دوري، مع أجهزة مخابرات غربية، وبصورة خاصة منها، البريطانية والأمريكية.
وفي هذا السياق، يخبرك العارفون بتعقيدات البيت الداخلي لـ “هيئة تحرير الشام”، أنها تضم بصورة أساسية، ثلاث كُتل أو أجنحة. “كتلة مدينة بنش”، الممثّلة بشخصيات بارزة داخل القيادة، من أبرزها الشرعي، عبد الرحيم عطوان -وهو الذي أصدر بيان تبرير محاولة اعتقال “زكور” في إعزاز، والذي ركّز على تُهم الفساد-، إلى جانب الرجل الثاني في قيادة الهيئة، “أبو أحمد حدود”، و”المغيرة (قتيبة بدوي)”، و”أبو حفص بنّش”. في المقابل، هناك جناح أو كتلة الشرقية، بقيادة أبو ماريا القحطاني. وهي الكتلة التي تضم مقاتلين منحدرين من المنطقة الشرقية. وقد تحالفت هذه الكتلة مع كتلة حلب، بقيادة “أبو أحمد زكور”، المستند إلى وزنه وعلاقاته العشائرية في أرياف حلب الشمالية والشرقية. ورغم غلبة وزن “جناح بنش”، داخل الهيئة، فقد ازداد تأثير كل من القحطاني و”زكور” في السنتين الأخيرتين، مع تسليمهما ملف شمالي حلب، ونجاح “زكور” بصورة خاصة، في تحقيق اختراقات نوعية لصالح الهيئة، داخل فصائل الريف الشمالي لحلب. وهو ما أثار حفيظة “جناح بنش”، ودفعهم ذلك للعمل على استثمار ملف “خلايا الاختراق”، لدفع زعيم الهيئة، “الجولاني”، إلى الانتقال من حالة الموازنة بين الأجنحة الثلاثة، وإدارة خلافاتها بصورة تخدم مصالح استفراده بالزعامة، إلى حالة الانحياز لصالح “جناح بنش”. إذ تم إقناع “الجولاني” بأن “القحطاني” تجاوز صلاحياته في التواصل مع أجهزة الاستخبارات الأجنبية، بصورة تشكّل تهديداً لزعامته. وصولاً إلى إقناعه بأن “القحطاني” برفقة “زكور”، كانا يرتبان لانقلابٍ ضده، بتنسيق مع “التحالف الدولي”، بقيادة الولايات المتحدة.
ولأن “الجولاني” لا يستطيع مصارحة البيئة المحلية للهيئة، بأن الحملة ضد “القحطاني” و”زكور”، غايتها استعادة حصريّة تواصل قيادة الهيئة مع القوى الخارجية، لتكون في قبضته وحده، أو بتوجيه وعلمٍ كاملٍ منه، غيّرت الهيئة خطابها، لتصوّب على “زكور” تحديداً، من زاوية “الفساد”. ورغم أن الأخير، وُصف من جانب وزارة الخزانة الأمريكية، -في معرض فرضها لعقوبات ضده في أيار/مايو المنصرم-، أنه المشرف على المحفظة الاقتصادية والأذرع المالية لـ “هيئة تحرير الشام” في الخارج، إلا أن مصادر متقاطعة من داخل الهيئة، تُجمع على أن النفوذ الاقتصادي والمالي الأقوى داخل الهيئة، يرجع إلى قيادات “جناح بنش”، الذين يمسكون بكل مفاصل الحياة الاقتصادية في إدلب، ويسيطرون على المعابر. وبعيداً عن خطاب الهيئة الرسمي، تكشف تسريبات منشقين عن الهيئة، من حين لآخر، عن شبهات فساد تحوم بالفعل، حول أداء “زكور”، وتُهم تطاول استغلاله لمنصبه. لكن تلك الشبهات، تحوم في الوقت نفسه، حول قياديي “جناح بنش”، وأبرزهم “أبو عبد الرحمن زربة (مصطفى قديد)”، الذي يدير معظم ملفات الاقتصاد في إدلب، بالنيابة عن “أبو أحمد حدود”، الرجل الأول داخل “جناح بنش”. من دون أن ننسى شبهات الفساد التي تحوم حول قيادي آخر، هو “المغيرة البنشي (قتيبة بدوي)”. أي أن الجميع تقريباً متورطون في قضايا فساد. أو على الأقل، هناك شبهات فساد تحوم حولهم. وينطبق ذلك على قياديي “جناح بنش”، ربما أكثر مما ينطبق على “زكور” الذي يقود “جناح حلب”.
وهكذا تحولت معركة “كسر العضم” بين الأجنحة المتصارعة في قيادة الهيئة، إلى معركة “نشر للغسيل الوسخ”، عبر تسريبات وبيانات مضادة. وفيما يبدو أن الصراع الميداني والسياسي يكاد يُحسم لصالح “جناح بنش”، جراء انحياز الجولاني له، تبقى سيناريوهات المستقبل مفتوحة على كثيرٍ من الاحتمالات. خاصة حينما يتضح مصير “زكور” المختفي لدى الأتراك، والذي يملك أسرار مصادر التمويل الخارجية لـ “هيئة تحرير الشام”.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت