من يُراقب تحركات زعيم “هيئة تحرير الشام” أبي محمد الجولاني، يخيل له أن الرجل يخوض الانتخابات الرئاسية الأميركية، ويُحاول كسب ود المواطن العادي لحصد نتيجة أفضل في صناديق الاقتراع. في القاموس الأميركي، هو رجل بالإمكان شرب زجاجة بيرة معه، لكن طبعاً في حالة القاعدي السابق، يصبُّ لك طبقاً من الفول ويتناوله معك كإنسان عادي. نزل الجولاني من عرشه الأميري، ليكون مع الناس ويتناول معهم بالفول والحمص وأكواب الشاي.
زعيم “هيئة تحرير الشام” في تلك الواقعة، خلع رداءه القاعدي والجهادي بالكامل، واكتسى مكانه طقماً أردوغانياً بلا كرافة، ولكن مع عدة الشغل ذاتها بالإعلام والسياسة. تُحافظ على الخطاب الشعبي والإسلامي، تُصلي وتظهر بينهم، تُطهر صفوف حزبك ومنطقتك من أي معارضين حقيقيين أو محتملين (قبل أن تخطر على بالهم أفكار غير محمودة)، لكنك تحت الطاولة تعقد صفقات كثيرة للحفاظ على نفسك ومصالحك التي تضيق دائرتها يومياً.
والحقيقة أن الجولاني خلال الفترة الماضية عقد كثيراً من الصفقات، وباع حلفاء ورفاقاً له في القتال، من دون أي بهرجة إعلامية. هو السلطة الفلسطينية في أوج اعتقالاتها وعملها في التنسيق الأمني. لاعب صغير يجلس بين الكبار ويخال نفسه منهم، ثم سرعان ما يفيق على طبيعة اللعبة ويقبل بصفقات واتفاقات لم يُوقع عليها. والحقيقة أن الجولاني يجلس على كرسي مرتفع، ويتفرج على اغتيال قيادات من تنظيم “حراس الدين” بطائرات مسيّرة للتحالف. في عالم الجهاديين، يكسب الضحايا من الاغتيالات، كما يحصل اليوم مع قيادات “حراس الدين”، إذ أن مجرد تعرضها لهذه الاعتداءات المتكررة يمنحها شرعية، ويُحرج “تحرير الشام” بشكل أكبر.
لكن بعيداً عن التزامه بالاتفاقات والتفاهمات الروسية-التركية، الأساسي اليوم هو أن الجولاني بنى تنظيماً جهادياً، يحوي كوادرا محلية وأجنبية، وفيه شرعيون بات عملهم يقتصر على تبرير الصفقات، تماماً كما يفعل علماء البلاط في المنطقة. بيد أن تبرير الصراعات مع التنظيمات الجهادية الأخرى، وتكفيرها، شأن، وافتاء الدخول في تحالفات واحترام اتفاقات دولية، شأن آخر، وهو على ارتباط بالهوية التنظيمية.
عملياً، يريد الجولاني مصالحة الطبيعة الجهادية لتنظيمه، مع عالم السياسات المتقلبة وفقاً للمصالح. وهذان عالمان يُعرفان بعلاقتهما الضدية، لذا يتطلب مثل هذا التحول مراجعة دينية وعقائدية لا قدرة لديه على اجرائها بشرعيين من الصنف الضعيف.
والكلام الأخير للجولاني مع “مجموعة الأزمات الدولية” يُشير الى تقلص ما في طموحات الرجل، إلى مستوى اداري ضيق، بدلاً من الاحلام والشعارات الكبرى سابقاً. وصف حينها “هيئة تحرير الشام” بأنها “مشروع بُني عبر ظروف معينة ولن يستمر إلى الأبد. وليس لدينا خطة مسبقة طويلة الأمد. لا أحد يعرف ما سيحدث خلال الأشهر الثلاثة القادمة، وما هي المناطق التي ستكون تحت سيطرتنا، وكم سيبلغ عدد المهجرين الذين يتوجب علينا العناية بهم، وما الذي ستفعله تركيا، أو ما إذا كان الأميركيون سيكونون ما زالوا في سورية”.
الجولاني ينتظر نوعية الصفقة المقبلة، ويريد كرسياً إدارياً من خلال قوته العسكرية المحدودة وقدرته على إدارة الداخل الإدلبي. وما يُشاع عن تورط الجولاني في تجنيد سوريين للقتال في ليبيا، يشي في حال كان صحيحاً، بمستوى كامل من التسليم لأنقرة، لا بد أن ينعكس على تماسك الهيئة نفسها، سيما لو مُورست ضغوط عليه لخوض مواجهة شاملة مع “حراس الدين”. حينها قد يُضطر الجولاني لخوض معارك بغطاء جوي أميركي، في انقلاب دراماتيكي للمواقف وللأحداث في سوريا، إذ بدّل الرجل ولاءه مرات من “البغدادي” إلى “الظواهري” وبات الآن في موقع آخر تماماً، بما يُذكر بسياسي لبناني متقلّب يحمل اسمه الأخير حروفاً كثيرة مماثلة لزعيم “الهيئة”.
حتى إن المبعوث الأميركي لسوريا جيمس جيفري بدل موقفه من الهيئة في شباط (فبراير) الماضي، واعتبرها خطراً على النظام فحسب، وهو ما يؤشر إلى أن المقابلة مع “مجموعة الأزمات” كانت حركة متفقاً عليها لبعث رسائل تطمين.
يبقى أن الجولاني أفندي هو “على المدى المتوسط”، كما حدد، جزءٌ من واقع الشمال وادارته، بانتظار قرار جديد بشأنه من الباب العالي.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت