لم يتحول وباء الكورونا في روسيا حتى الآن ، إلى قاتل جماعي ، كما في بلدان أخرى ، ولم يتخط عدد المصابين بالوباء في سائر روسيا 500 شخص حتى مساء الثلاثاء ، من دون أن تعلن السلطات عن حادثة وفاة واحدة . ولذلك يبدو أن السلطات تأخرت حتى يوم الثلاثاء عينه لتحظر عمل دور السينما والنوادي الليلية وغرف لعب الأطفال ومراكز التسلية ، وتمنع أيضاً تدخين النارجيلة في المطاعم والبارات ، دون أن تعلن عن حظر عمل المؤسسات الأخيرة . وكانت السلطات الروسية قبل ذلك قد عمدت إلى حظر خروج المسنين فوق 65 عاماً من منازلهم . لكن ليس هذا الحظر ما يفسر خروج بوتين من موسكو للإقامة في مقر رئاسي قريب منها ، كما أعلن الناطق الرسمي باسمه ديمتري بيسكوف ، الذي قال أيضاً ، بأن بوتين لا يضع الكمامة والقفازات الواقية خلال اجتماعات العمل ، التي يعقدها ، وذلك لأن الأطباء يتولون التدقيق في حالة كل من يجتمع به بوتين .
لكن هذه الإجراءات ، التي يراها معارضو بوتين متأخرة وغير متناسبة مع خطورة الوباء ، تبدو متناقضة مع مشروع القانون المتشدد ، الذي بدأ مجلس الدوما (البرلمان) مناقشته الثلاثاء أيضاً في 24 من الجاري ، وينص على فرض عقوبات على المخالفين : مالية ( 1 – 2 مليون روبل ) ، أو السجن بين 3 و7 سنوات.
لدى كل من المعارضين والموالين لبوتين إجابته الخاصة على التساؤل أين كانت السلطات طيلة الفترة الماضية ، ولماذا اعتماد هذه الإستراتيجية المتساهلة في فرض تدابير الحجر الصحي . إذ لم تحظر السلطات حتى الآن التجمعات ، التي لا يتخطى عدد المشاركين فيها 50 شخصاً ، بل وتسمح بإقامة حفلات الأعراس والأفراح ، حيث نقلت المواقع الروسية منذ يومين ، نبأ حفل عرس في منطقة النفط في سيبيريا ، انتهى بعراك قتل بنتيجته العريس . وهي لا تزال تسمح بتجمع المؤمنين في دور العبادة ، حيث نقلت الصحف والمواقع الإخبارية توافد أكثر من 70 ألف مؤمن في أحد معابد سان بطرسبورغ ، كانوا يصطفون خلف بعضهم ليقبّلوا بالدور زجاج علبة صغيرة ، قيل أنها تضم ذخائر يوحنا المعمدان .
صحيفة الكرملين “VZ” ، التي تكثر هذه الأيام من المقالات ، التي تعدد فيها ” فوائد” الكورونا لروسيا، ترى أن الوباء “يبلور في الروس مجتمعاً مدنياً” ، وأن “وباء الكورونا يتوفر على علاج للبيئة” ، حيث أصبحت مياه مدينة البندقية شفافة ، وعاد إليها السمك والدلافين ، وأن “وباء الكورونا يجبر أوروبا على التخلي عن الرهاب الروسي” ، وأنهم “في روسيا يعدون لفيروس الكورونا إختباراً قاسيا” .
لكن الإستنتاج ، الذي استخلصته الصحيفة من معركة البشرية مع وباء الكورونا ، والذي قد يكون الأشد غرابة من كل استنتاجاتها الأخرى ، هو أن “الكورونا تضمن انتصار الصين على الولايات المتحدة” . في مقالتها، التي عنونتها بهذا الكلام ، تقول الصحيفة أن نشاطات الولايات المتحدة في ظروف الوباء ، وتركيز البيت الأبيض على السياسة الداخلية ، منحت الصين ، التي تقدم مساعداتها العينية إلى العديد من الدول ، منحتها فرصة عرض قوتها الناعمة واختطاف الزعامة العالمية . وتنقل عن الدورية الروسية “روسيا في السياسة العالمية” تشبيهها اللحظة التاريخية الراهنة بأزمة السويس العام 1956 ، التي أنهت هيمنة بريطانيا على الساحة العالمية . وإذا لم تنهض الولايات المتحدة إلى النضال ضد التحدي الجديد ، فإن الوباء قد يصبح بالنسبة لها تكراراً لأزمة السويس ونتيجتها بالنسبة لبريطانيا .
وتقارن الصحيفة بين سلوك الولايات المتحدة حيال أزمة تفشي إيبولا في العامين 2014 – 2015 ، حيث تزعمت إئتلافاً دولياً من عشرات الدول لمحاربة إنتشار المرض ، وبين سلوكها الإنعزالي الحالي ، حيث يرفض ترامب حتى مجرد التنسيق مع الحلفاء. وإذ تشعر الولايات المتحدة بارتفاع سمعة الصين في العالم ، تنهال عليها بالإنتقادات مجدداً عبر حلفائها . وتذكر الصحيفة بتصريح إبن الرئيس البرازيلي ، وعضو البرلمان البرازيلي ، حيث قارن بين تشيرنوبل وتفشي فيروس الكورونا الحالي ، وغرد عبر تويتر بالقول :” مجدداً تفضل الديكتاتورية إخفاء أمر جدي ، الصين هي المسؤولة عن المشكلة ، وحلها هو الحرية” . وتقول الصحيفة أن الرئيس البرازيلي رفض طلب السفير الصيني في البرازيل الإعتذار عن هذا الكلام ، مما اضطر رئيس الكونغرس البرازيلي المعارض ، الذي أصيب نفسه بالوباء ، إلى تقديم الإعتذار بالقول ، إن ما تقوم به الصين في مكافحة الوباء ، يشكل مثالاً يحتذى للعالم أجمع .
من جهتهم ، يرى المعارضون للرئيس بوتين ، على اختلاف مشاربهم ، أن تأخر روسيا في مواجهة الوباء يعود لانهماك الرئيس الروسي خلال الشهرين المنصرمين في معركة التعديلات الدستورية ، التي ضمنت له الإستمرار في السلطة لولايتين إضافيتين على الأقل . وترى صحيفة القوميين الروس “SP” ، أن روسيا ليست مهيأة للتعامل مع وباء الفيروس كورونا ، إذ تعاني من النقص في وسائل حماية الأطباء والمرضى ، وقصور النظام الصحي الروسي ككل . وترى في مقالة أخرى ، أن وباء الكورونا يدفن ورقة بوتين الرابحة الأساسية ، التي يزمع استخدامها في الإنتخابات الرئاسية العام 2024 ، والتي تتمثل في ما يسمى “البرامج القومية” ، التي أقرها بوتين في العام 2018، وتضم 12 برنامجاً يستهدف كل منها تحديث أحد جوانب الحياة الإجتماعية الإقتصادية الروسية ، مثل الطرق والسكن والبيئة والعلوم ودعم البيزنس الصغير والمتوسط والتعاون الدولي والتصدير ، وسواها مما هو ملح لتحديث روسيا . وتبلغ كلفة تنفيذ هذه البرامج ، التي ينبغي أن تنجز في العام 2024 ، حوالي 26 تريليون روبل ، توفر الموازنة الفيدرالية حوالي 13 تريليون منه .
وتستند الصحيفة في قولها بدفن وباء الكورونا لهذه البرامج ، إلى تصريح رئيس ديوان المحاسبة الليبرالي ووزير المالية الأسبق ألكسي كودرين في 19 من الشهر الجاري في مجلس الدوما ، حيث أعلن بأنه ينبغي السماح للحكومة بتعديل البرامج القومية تلك ، ومن ثم تفحص البرامج المعدلة هذه وتحليلها في تموز/ يوليو القادم . وتقول الصحيفة ، أن مجلس الوزراء الروسي ، وعلى ضوء إعلان رئيس ديوان المحاسبة ، هو في صدد إعداد خطة لتمويل مواجهة الاثار الإقتصادية لفيروس كورونا عن طريق التخفيض المؤقت للإستثمارات في البرامج الكبرى ، وخاصة برنامج تحديث شبكة الطرقات الفيدرالية .
وفي السياق عينه كتبت الصحيفة في 24 من الجاري مقالة بعنوان “روسيا تخطت نقطة اللاعودة في الطريق نحو دولار يفوق 110 روبلات ” ، وقالت بأنه قد خرج من روسيا خلال أسبوع واحد بين 12 و18 من الجاري مبلغ 1,4 مليار دولار ، وهو رقم قياسي غير مسبوق في خروج رؤوس الأموال من روسيا.
“التحالف الشيطاني” بين بوتين وفيروس الكورونا ، كما يسميه أحد المدونين في موقع “KASPAROV” المعارض ، والذي استخدمه بوتين في انقلابه الدستوري لبقائه في السلطة ، يبدو أنه قد انقلب ضده . ولا يتمثل هذا الإنقلاب ضده في دفن ورقته الرابحة تلك فحسب ، بل وإجباره أيضاً ، كما يبدو، على تأجيل الإستفتاء الشعبي على تعديلاته الدستورية في 22 الشهر القادم . لكن الصفعة الأشد إيلاماً لبوتين ، التي قد يحملها إليه فيروس الكورونا ، تتمثل في اضطراره المحتمل لتأجيل الإحتفال الضخم بالذكرى 75 للنصر على ألمانيا النازية في 9 أيار/مايو القادم ، والذي خطط له بوتين ليشهد عدداً كبيراً من الضيوف الأجانب ، وليستعرض أكثر من 15 ألف عسكري مدججين بأفضل أسلحته الجديدة ، التي اختبرها جميعها في حقل الرماية السوري .
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت