مرّت القضيّة السورية بمحطات ومنعرجات كثيرة، وتخلّلتها جرائم حرب يصعب حصرها، لكنّ الهجوم على غوطة دمشق بالأسلحة الكيميائية، في 21 أغسطس/ آب 2013، ورغم أنه لم يكن الاستخدام الأول ولا الأخير للسلاح الكيميائي من النظام ضدّ المدنيين، علامة فارقة، من حيث هول المجزرة التي أوقعها، وتبعاته السياسية والإستراتيجية. ترجّح الأحداث التي تلت “ليلة الكيميائي” أنّ التسوية التي رُتِّبت في أثرها، بتنسيق أميركي روسي ومباركة إسرائيلية، كانت بمثابة صفقة للنظام تضمن بقاءه مقابلَ تسليم ترسانته الكيميائية، ودليل إضافي على زيف ادّعاءاته عن “المقاومة” والصراع ضدّ الاحتلال، فهو لم يتورّع عن تسليم سلاح يزعم أنّ غايته إيجاد “توازن استراتيجي” في مواجهة إسرائيل النووية، في سبيل الحفاظ على سلطته.
أطلقت، عقب الهجوم دعوات لمعاقبة نظام الأسد، وهدّدت واشنطن بتوجيه ضربة عسكرية واسعة النطاق، واتّخذت بوارجها مواقع قتالية شرق البحر المتوسط، على وقع حراك دبلوماسي لحشد مواقف تؤيّد “الضربة” المزعومة. لكنّ ذلك كلّه انتهى بمجرّد قبول النظام وضعَ مخزون الأسلحة الكيميائية السورية تحت إشراف الأمم المتحدة، وانضمّت سورية إلى اتفاقية حظــر الأسلحة الكيميائية بعد أسابيع من الهجوم، ثمّ أصدر مجلس الأمن قراره رقم 2118 بشأن برنامجها الكيميائي، في 27 سبتمبر/ أيلول 2013.
أشار القرار إلى هجوم الغوطة، وشدّد على محاسبة المسؤولين عن أي استخدام للأسلحة الكيميائية، ورحّب بالاتفاق الروسي الأميركي الهادف إلى “ضـمان القـضاء على برنامج الجمهورية العربية السورية للأسلحة الكيميائية في أبكر وقت وبأسلم وجه”. ونصّ على منع سورية من اسـتخدام أسـلحة كيميائية أو إنتاجها أو تخزينها، أو نقلها إلى دول أخرى أو جهاتٍ من غير الدول، وعلى امتثالها لقـرار المجلس التنفيذي لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية بشأن القضاء على البرنامج الكيميائي السوري وفق جدول زمنيٍّ محدّد، والتعـاون الكامل مـع المنظمة، وإفـساح الـسبل أمام موظفيها للوصول فوراً ومن دون قيد إلى جميع المواقع، ومنحهم الحق في تفتيـشها، في سـياق تنفيذ مهـامهم. وأخيراً، نصّ على فـرض تدابير، بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، في حالة عدم الامتثال للقرار، وهذا يعني زيادة فاعليته وقدرته على الردع، نظرياً على الأقل. ومع ترحيب إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، بالتسوية الكيميائية وبـ”تجاوب” النظام السوري معها، تراجعت لغة التهديد والوعيد، وتجدّدَ الحديث عن الذهاب إلى مؤتمر جنيف 2، لإيجاد “حل سياسي دائم للأزمة”.
طريقة استجابة النظام في البداية، وسرعته في تزويد الجهات الدولية المعنية بمعلومات عن ترسانته، كانت من السلاسة والإيجابية إلى درجةٍ توحي بوجود خطّة مسبقة لإتمام الصفقة، أعدّها مع حليفيه الأهمّ، روسيا وإيران، تمكّنه من تجنّب المحاسبة، وفي الوقت نفسه، الاحتفاظ بجزء من قدراته الكيميائية. ذلك أنّ هجمات كيميائية عديدة وقعت في السنوات اللاحقة، وثّقتها منظمّات حقوقية محلّية ودولية، وتقارير فرق منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، ولم ينجم عنها أي محاسبة جدّية. وفي استثناءين أميركيَّين خجولَين، استهدفت الولايات المتحدة مواقع للنظام بهجمات صاروخية محدودة، في عهد الرئيس دونالد ترامب، الأولى في أبريل/ نيسان 2017، بعد فشل مجلس الأمن في التوصل إلى موقف مشترك بشأن هجوم كيميائي على بلدة خان شيخون بمحافظة إدلب، والثانية بعد عام، إثر تعرّض مدينة دوما لهجوم كيميائي آخر أودى بحياة عشرات المدنيين. وفي المرّتين، فاقَ الضجيجُ الإعلامي أثرَ العملية الفعلي على النظام وقدراته.
وما زال مجلس الأمن يستمع إلى إحاطات شهرية من مسؤولي منظمة حظر الأسلحة الكيميائية حول تنفيذ القرار 2118، تتكرّر فيها الشكوى من عدم تعاون النظام معها وتعطيله عملها. وبحسب موقع أخبار الأمم المتحدة الرسمي، أكّد أديجي إيبو نائب الممثلة السامية للأمم المتحدة لشؤون نزع السلاح، في أولى الإحاطات لهذا العام، أن منظمة حظر الأسلحة الكيميائية لم تتلقّ معلوماتٍ طالبت بها بشأن 20 قضية معلّقة حالياً، وبالتالي، لا يمكن اعتبار إعلان سورية حول برنامجها دقيقاً ومكتملاً وفقاً لاتفاقية الأسلحة الكيميائية، وأن فريقاً مصغّراً سيتوجّه إليها خلال شهر يناير/ كانون الثاني الجاري.
في المقابل، يواصل نظام الأسد سياسة الإنكار، ففي الجلسة نفسها قال مندوب سورية الدائم لدى الأمم المتحدة، بسّام صباغ، إنّ بلاده دانت مراراً استخدام الأسلحة الكيميائية، وأكّدت عدم استخدامها على الإطلاق، وأنها انضمّت طوعاً لاتفاقية الأسلحة الكيميائية وأنهت تدمير جميع مخزوناتها، وحرصت على التعاون الكامل مع منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، والالتزام بتطبيق الاتفاقية. ودعا صبّاغ الأمانة الفنية للمنظمة “للتحلّي بالمهنية والحيادية”! كما شهدت الجلسة تراشق التصريحات المعتاد بين الجانبين، الروسي والأميركي، فالأول لا يرى جدوى من مناقشة هذا الموضوع في المجلس شهرياً (علماً أنّها من مقتضيات القرار 2118)، والثاني يردّ بالإعراب عن تقدير “جهود مكتب شؤون نزع الأسلحة لتوفير معلومات ذات مصداقية حول التقدم الذي أحرزته أو لم تحرزه سورية لإزالة أسلحتها الكيميائية بشكل كامل”.
التعامل المتهافت مع ملف سورية الكيميائي، رغم وجود قرار سابق يتيح اتخاذ إجراءاتٍ مناسبة، بدءاً من التحقيق وانتهاءً بتحديد الفاعلين تمهيداً لمحاسبتهم، يعني غياب الإرادة الدولية لحسمه، لذا يبدو أنّه سيبقى ضيفاً على مجلس الأمن إلى أجل غير مسمّى.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت