لم يضف المؤتمر الدولي حول اللاجئين السوريين الذي عقد مؤخراً في دمشق أي جديد، وبدت قراراته كأنها حبر على ورق؛ ليس فقط بسبب استهانته بالدوافع الإنسانية والأخلاقية لهذه المعضلة، وانفضاح غرضه السياسي في تعويم النظام، أو لضعف المشاركة الدولية فيه مع غياب أهم البلدان الغربية والعربية التي لا تزال تتمسك بأولوية توفير الشروط الأممية الآمنة لعودة اللاجئين، تحدوها عملية تغيير سياسي وفق بيان جنيف وقرار مجلس الأمن 2254، وإنما أساساً بسبب تحسب وخوف غالبية اللاجئين أنفسهم من العودة إلى وطن لا ينتظرهم فيه سوى مزيد من الهم والتعتير، وأخطار متنوعة تهدد حيواتهم وسلامة أبنائهم.
فأنَّى للاجئ أن يعود ما دام يرى بأم عينيه نظاماً لا يزال – بعد فظاعة ما ارتكبه – يستهين بعقول البشر، ويتفنن في التحايل والمراوغة للتنصل من مسؤوليته الرئيسة عن تهجير السوريين، مدعياً بأن مشكلتهم مفتعلة للتدخل في البلاد وتفتيتها، وأنها وليدة الحصار الاقتصادي والإرهاب الإسلاموي، وليست نتيجة عنفه المنفلت، وما خلفه إطلاق أشد أنواع الفتك والتنكيل للحفاظ على تسلطه وامتيازاته، من خراب ونزوح وتشريد، مثلما تهرب من مسؤوليته عن تدهور الاقتصاد وتفاقم شروط العيش، مدعياً أن السبب ليس التدمير والفساد والابتزاز؛ بل الأموال السورية المحتجزة في مصارف لبنان، والتي ظهر أنها لا تتجاوز بضعة مليارات سُحب قسم مهم منها مع بدء تطور الأزمة اللبنانية؟
وأي حافز يمكن أن يشجع اللاجئين على العودة وثمة إحساس قوي لديهم بانسداد الأفق وانعدام الأمل بخلاص قريب، أو على الأقل بتحسن الوضع الأمني واستعادة حياة عامة تهتكت مقوماتها؛ خصوصاً أن ملف الاعتقال السياسي والتغييب القسري لا يزال مطوياً ويحظر الاقتراب منه، فكيف الحال وثمة يقين عند غالبيتهم بأن القادم سيكون أكثر سوءاً وتردياً، في ظل بنية سلطوية تدرك أنها لن تستطيع الحكم بعد ما ارتكبته إلا بتشديد القهر والإرهاب واستباحة حقوق البشر؟
بلا شك، ساهمت المحاولات الروسية، منذ المبادرة التي أطلقتها منتصف عام 2018 لطمأنة اللاجئين، في عودة بضع مئات من أصل 6.6 مليون لاجئ بأرقام المفوضية العليا للاجئين، وأكثريتهم من مخيمات لبنان؛ حيث تشتد معاناتهم ويتعرضون لأشكال متعددة من الأذى والإساءة والاتهامات، ومن شروط قاسية تفرض على حركتهم وعملهم وسكنهم؛ لكن اليوم ليس من دافع يحضهم على العودة، ما دامت ذاكرتهم تغص بعشرات الأمثلة عن أسر عادت إلى البلاد ولا يزال رجالها مغيبين في أقبية المخابرات، وعن فرص معدومة لاسترداد بيوتهم وأراضيهم المسلوبة من قبل شبيحة النظام؛ خصوصاً في المناطق التي شهدت حصارات طويلة، والأنكى حين تغدو هذه الأملاك تحت مطامع جماعات مذهبية تتقصد الاستيلاء على أحياء وبلدات معينة، ضمن مخطط تغيير ديموغرافي، يجعل منها بؤراً أمنية متجانسة من النمط المذهبي ذاته.
على الرغم مما يكابده اللاجئون السوريون في تركيا، مع تراجع شروط العيش وفرص العمل، وعلى الرغم من إدراكهم استغلال مأساتهم، إنْ في استجرار المعونات المالية الأممية والأوروبية، وإنْ في تمرير هدفها بمنطقة آمنة على طول الحدود، وإنْ في امتصاص عافيتهم واحتواء أصحاب الرساميل منهم وذوي الكفاءات العلمية والمهنية، وإنْ في زج شبابهم في معارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل، على الرغم من كل ذلك يمكن أن تلمس عند أكثريتهم خيار البقاء، بصفته الخيار الأقل سوءاً أو أهون الشرور مقارنة بما ينتظرهم في بلدهم؛ خصوصاً بعد أن أباح الانتصار السلطوي الموهوم كل شيء لحامل السلاح، فصار الآمر الناهي والذي يمكنه – من دون مساءلة – تقرير كل ما يتعلق بمصير الناس وحيواتهم وممتلكاتهم، والدليل تواتر الحكايات عن حجم تعديات المسلحين وتنوع تجاوزاتهم، إن كانوا مع النظام أو المعارضة… عن مواطنين أبرياء يتعرضون – ولأسباب تافهة – لانتهاك كراماتهم والابتزاز والأذى والقتل، من دون أن يطال المرتكبين أي حساب أو عقاب… عن طالب يُترك عند باب الحرم الجامعي وهو يحتضر جراء الضرب المبرح من قبل القيمين على حياته وأمنه… عن فتاة تُقتل لمجرد أنها زجرت مسلحاً حاول استمالتها عند أحد الحواجز الأمنية… عن أب أُكره على قتل بناته الشابات الثلاث كي يجنبهن أي انتهاك أو إذلال… عن عائلة لا يزال يأكلها القهر والعجز عن تأمين فدية لاسترداد ابنها المخطوف!
وأخيراً، أنى لللاجئ أن يعود وقد هرب من شظف العيش والغلاء الفاحش، ومن انعدام فرص العمل والعجز عن توفير أبسط مستلزمات الحياة، كالغذاء والكساء والدواء، وعانى الأمرين من شح المياه وانقطاع الكهرباء، ومن امتهان الكرامة والإذلال لتوفير بعض الوقود والغاز؟! أليس من الطبيعي أن يفكر قبل عودته في مشاهد لإخوته في الوطن وهم في حالة عوز شديد أو شبه جياع، أو بالدرك الذي بلغته الخدمات التعليمية والصحية، وفيما ينتظر أطفاله بعد تدمير جزئي أو كلي لأكثر من نصف المدارس والمنشآت الصحية، وهجرة خيرة الأطباء والكفاءات العلمية؟! هل يعود لينضم إلى صفوف بشر يزجرون في طوابير طويلة لاقتناء حاجاتهم الأساسية، أم ليكون واحداً من المحتجزين في أقفاص حديدية صنعت خصيصاً أمام الأفران، بدعوى تنظيم من يتدافعون للحصول على لقمة الخبز، أم يعود ويحرم أهله وأحبته مما تيسر من مال يقتطعه من مخصصاته ويرسله إليهم، وهو العارف بأنهم من دون هذه المساعدة لا يمكنهم الحياة والنجاة؟!
لا حاجة بك لتتحدث مع اللاجئين السوريين كي تكتشف عمق حنينهم لوطنهم، ومدى شوقهم للعودة إلى ديارهم. يمكنك أن تلمس ذلك في لهفتهم لمتابعة أي خبر مفرح عن بلدهم، في عيونهم التي تدمع ألماً على تفاقم ما يكابده أهلهم وأقرباؤهم هناك، وفي نفوسهم التي تفيض قهراً وربما يأساً من خلاص طال طريقه، وازداد تعقيداً بعد «الانتصار المزعوم» للقبضة السلطوية الأمنية، وتعزيز سيطرتها الطائفية والمذهبية على مفاصل الدولة والحياة، وبعد تحويلها الوطن إلى رهينة لمصالح أطراف خارجية، لا تقيم اعتباراً لمصير سوريا وحقوق أبنائها ومستقبلهم.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت