الليرة السورية بين “قيصر” وضغط الحليف والجار..أي حلول يملكها النظام؟
“كم سعر الصرف اليوم”، “ارتفعت الليرة أم انخفضت” “ماذا سيحصل”؟، أسئلة متكررة واستفسارات لا أجوبة لها، سيطرت على حديث السوريين كافة، خلال الأيام الماضية، بعد تدهور الواقع المعيشي وتردي مؤشرات الاقتصاد، إذ وصول سعرصرف الليرة السورية أمام الدولار إلى مستويات قياسية.
وعلى مدى الأسبوعين الماضيين، لم يكن حديث السوريين اليومي سوى سعر صرف الليرة السورية، والمستقبل الغامض لمصير العملية الوطنية، بعدما وصلت إلى حدود 3500 ليرة أمام الدولار وانخفضت لاحقاً، وكيفية مواجهة حالة التردي الاقتصادي، وسط تحليلات وتوقعات من جانب، ومناشدات بتحسين الواقع من جانب آخر.
وفي ظل البحث عن أسباب الانهيار االحاصل، والحلول التي يمتلكها النظام للتصدي للعاصفة التي تضرب الاقتصاد قبل بدء تطبيق قانون “قيصر” الأمريكي، أعلن رئيس النظام، بشار الأسد، إقالة رئيس مجلس الوزراء، عماد خميس، وتكليف محافظ دير الزور والقنيطرة سابقاً، و وزير الموارد المائية، حسين عرنوس، بمهامه حتى يوليو/تموز المقبل موعد انتخابات “مجلس الشعب” التي تأجلت مرتين.
وفي حين لم يكن عزل خميس مفاجئاً، كونه لابد من “كبش فدا” يحمل مسؤولة تدهور الوضع المعيشي، وخاصة في الأشهر الأخيرة، اعتبر آخرون أن قرار إقالة خميس قبل شهر ونصف من انتخابات مجلس الشعب وبالتالي انتهاء ولايته، جاء لإظهار الأسد بالمهتم بحال المواطنين، الذين ارتفعت نبرة التذمر في أحاديثهم العلنية؛ في الشوارع والأسواق، ومنصات التواصل الاجتماعي.
ووسط هذه التطورات، تُطرح أسئلة كثيرة، حول الأسباب التي أوصلت المؤشرات الاقتصادية إلى ما هي عليه الآن، ومستقبلها، والحلول التي يمتلكها نظام الأسد لتطويق الموقف المتعاظم.
مخلوف.. كلمة سر الدولار
مع مطلع عام 2020، بدأت الليرة السورية تشهد انخفاضًا بطيئًا في قيمتها أمام الدولار لعدة عوامل، بعد حفاظها على قيمتها في الأشهر الأخيرة من العام الماضي عند حدود 800 ليرة سورية، وتراوح سعر الصرف بين ألف و1100 ليرة للدولار الواحد، لتصل في نهايةأبريل/ نيسان، إلى حدود 1300 ليرة مع بداية ظهور رامي مخلوف، ابن خال رئيس النظام، بشار الأسد، في تسجيلاته المصورة.
وعقب ظهور مخلوف في التسجيلات التي يتحدث فيها عن خلافات عائلية، ومحاولة شخصيات مقربة من الأسد السيطرة على شركة “سيرتيل” وما رافق ذلك من تهديدات ووعيد من قبله، بدأت الليرة السورية بتراجع كبير يوميًا بين حدود 100 إلى 300 ليرة يوميًا، لتصل إلى حدود 3500 ليرة، قبل أن تعود إلى التحسن مجدداً، وتستقر مع مساء الجمعة 12 يونيو/حزيران عند 2450 ليرة.
وللبحث عن أسباب التدهور السريع خلال الأسابيع القليلة الماضية، سأل فريق “السورية. نت”، عدداً من المحللين والخبراء و الباحثين الاقتصاديين، إذ أجمعوا على عدة عوامل مباشرة وغير مباشرة لتراجع الليرة.
ومن وجهة نظر الباحث والمستشار الاقتصادي، الدكتور أسامة القاضي، فإن هناك سبيين مباشرين للتدهور، الأول هو إصدار المرسوم رقم ثلاثة لعام 2020 والمتعلق بمنع التعامل بغير الليرة السورية كوسيلة للمدفوعات، ومعاقبة بالأشغال الشاقة المؤقتة لمدة لا تقل عن سبع سنوات والغرامة المالية لكل شخص يتعامل بغير الليرة.
واعتبر القاضي أن المرسوم جّمد وعطل ما تبقى من النشاط الاقتصادي في سورية، لأنه منع التداول بغير الليرة السورية، وأغلق محلات الصرافة والسوق السوداء، في ظل عدم وجود مخزونٍ كافٍ في المصرف المركزي بديل للشركات، لتؤمن ما تحتاجه من قطع أجنبي لشراء المواد الأولية.
أما السبب الثاني من وجهة نظر القاضي، فإنه يعود إلى خلاف مخلوف والأسد، والذي أدى إلى خوف رجال الأعمال المقربين والمحيطين بمخلوف، من تواجدهم في سورية، فجمدوا أنشطتهم مع احتمالية تهريب ما بقي لديهم من أموال كونهم لم يعودوا في مأمن.
من جهته أرجع الباحث الاقتصادي، مناف قومان، التراجع إلى عدة عوامل أبرزها “المضاربة على سعر الصرف”، بعد الأزمة بين رامي مخلوف والأسد، وحالة الهلع التي حدثت في الأسواق بعد ارتفاع السعر يومياً 200 و300 ليرة، إذ أن كسر الليرة لحواجز متقدمة، عرّض السعر للارتفاع بشكل كبير.
لبنان.. الجار المتأزم المؤثر
إضافة لذلك، لعبت جملة من العوامل دوراً في تسارع تراجع سعر الصرف، وأبرز هذه العوامل ازمة المصارف اللبنانية، والضغط على الليرة اللبنانية التي خسرت 2500 ليرة أمام الدولار خلال بضعة أشهر، بحسب القاضي، إلى جانب تحديد سقوف السحب بالقطع الأجنبي من المصارف، كل هذا ضغط على ما تبقى من رجال الأعمال داخل سورية.
وقال القاضي إن “المصارف اللبنانية هي الحديقة الخلفية للنظام السوري، والواجهات الاقتصادية، ولم يعد بإمكانهم (رجال الأعمال) أن يستفيدوا منها”.
وكان مدير العمليات المصرفية في “مصرف سورية المركزي” فؤاد علي، أكد لإذاعة “شام إف إم”، الأربعاء الماضي، أن سورية تأثرت بشكل كبير بالأزمة الاقتصادية الحاصلة في لبنان.
وإلى جانب لبنان برزت أسباب غير مباشرة أثرت في تدهور سعر الصرف، بحسب القاضي، منها أزمة فيروس “كورونا المستجد” الذي ضغط على حلفاء النظام (روسيا وإيران) ولم يعد بإمكانهم مساعدته مالياً بشكل مطلوب، بسبب الضغوط الكبيرة عليهم جراء انخفاض أسعار النفط بشكل كبير والتسبب بخسارة بالمليارات.
أما قومان فقد اعتبر أن هناك أسباب قديمة جديدة، متعلقة بالانخفاض الشديد للعملة الصعبة لدى المركزي، وغياب الدعم المادي والمالي من إيران عبر خط الائتمان المتوقف منذ نهاية 2018، إضافة إلى الشح الشديد في المحروقات جراء العقوبات المتعددة الأبعاد التي أصابت سورية وإيران ولبنان وروسيا، والشلل الحاصل في الإنتاج الزراعي والصناعي.
واستدل قومان على ذلك بالانخفاض الحاصل في الواردات بين 2018 و2019 جراء التراجع العام في الاقتصاد، إلى حوالي 4 مليارات دولار من نحو 6 مليارات دولار سابقاً، كما نوه إلى دور قانون قيصر”، الذي من المتوقع أن يطبق الأسبوع المقبل، في الأزمة الاقتصادية الحاصلة، غير أنه اعتبر أن القانون، لا علاقة كبيرة له في هذا التراجع المتسارع.
الليرة السورية.. مصير مجهول
“ماذا سيحصل” هو سؤال السوريين اليومي بحثاً عن إجابة حول مصير الليرة السورية، وسط توقعات باستمرار تدهورها ووصلوها إلى حدود خمسة آلاف ليرة سورية، بحسب قومان، في حال استمرت المضاربات بهذا الشكل، وبقي الخلاف العائلي بين مخلوف والأسد.
واعتبر قومان أن إيقاف “الإدارة الذاتية” قطع توريد القمح لمناطق النظام، وتخلي مناطق المعارضة عن التداول بالليرة السورية والتعامل مع مناطق النظام، واستمرار العمليات العسكرية في الشمال والجنوب، وجدية الولايات المتحدة الأمريكية في التعاطي مع “قانون قيصر”، كل هذه العوامل قد تؤدي إلى مزيد من التدهور في العملة السورية.
أما السيناريو الأسوأ سيكون مع تطبيق قانون “قيصر”، الذي من المتوقع أن يطبق الأسبوع المقبل، وينص على فرض عقوبات على نظام الأسد وداعميه، بحسب القاضي، لأنه في حال صنف المصرف المركزي في سورية، بأنه مصرف لغسيل الأموال ويدعم الإرهاب، يعني ذلك ضغط شديد على كل عمل المصارف.
وتوقع القاضي أن ذلك سيؤدي إلى إغلاق المصارف الخاصة أبوابها في سورية، لأنه لا يمكن لهذه البنوك التي لديها فروع في كل الدول العربية والعالم، أن تعرض نفسها للمخاطرة وتجميد أموالها وحساباتها وتصنيفها الائتمانية بسبب وجودها في سورية.
وأكد القاضي أن “قيصر سيزيد الضغط على حلفاء النظام أكثر من النظام، لأنه يعطي رسالة واضحة إلى روسيا بأنه لا يمكن لأي شركة في العالم أو دولة، أن تدخل في إعادة الاعمار، دون تنفيذ مطالب قانون قيصر من عودة المهجرين ووقف القصف وإخراج المعتقلين والوصول إلى توافق سياسي”.
وعن توقعاته للمرحلة المقبلة، اعتبر القاضي أنه في حال استمر تدهور الليرة السورية والاقتصاد السوري، الذي هو في الواقع معرض للتدهور كونه لا يوجد أي متغيرات فيما يتعلق بحوامل العملة السورية والاقتصاد من زراعة وصناعة ونفط وتجارة، فإن البطالة سترتفع بشكل أكبر وتعرض ما تبقى من شعب سورية إلى مجاعة، إذ لم يبق سوى طبقتين؛ طبقة الفقراء وطبقة المعدمين.
كما أن مشكلة انخفاض سعر الصرف بهذه الحدة، ستفقد الناس الثقة بوسيلة التداول بالعملة الوطنية، ويعطل آلية العرض والطلب وآلية التسعير، وتتعطل كل النشاطات الاقتصادية، ما يضطر الأهالي إلى البحث عن عملة أكثر استقرار، ما يدفعهم إلى اللجوء بتسعير بضائعهم بسعرين، العملة الوطنية وسعر بالدولار أو الليرة التركية، حتى يستطيعوا إكمال حياتهم كما حدث في فنزويلا وفي لبنان أثناء الحرب الأهلية(1975-1990).
وكانت تركيا بدأت بضخ كميات كبيرة من عمليتها من فئات صغيرة في الشمال السوري، إدلب وريف حلب، منذ يومين، بعد اتفاق مع حكومة الإنقاذ و”الحكومة السورية المؤقتة” على تثبيت الأجور وعمليات البيع والشراء بالليرة التركية.
“حلول ترقيعية”
ووافق قومان بأن الوضع المعيشي سيسوء أكثر، جراء تآكل القوة الشرائية للعملة، وعدم تناسب الدخل مع الارتفاع العام للأسعار، وفقدان معظم المواد التي يدخل في تصنيعها مادة أولية مستوردة.
ويأتي ذلك في ظل عدم امتلاك نظام الأسد لأي حلول طويلة الأمد، وإنما يمتلك عدة أدوات تمكنه من “تجميد الوضع وليس تحسينه”، بحسب قومان، مثل حل الخلاف مع رامي مخلوف وإعادة الود بين العائلتين، وبالتالي توقف المضاربات إذا كان هو السبب، والأداة الأخرى هي تشديد القبضة الأمنية أكثر على التجار والأسواق، لمنع تداول الليرة إلا ضمن السعر المحدد في محاولة لوقف تحكم السوق السوداء بالسعر.
وبالنسبة للمواطنين، فقد اعتبر قومان أن من يقطن في المدن، عليه إيجاد مصادر دخل أخرى ومساعدات مالية خارجية، قد تعينه إلى جانب الاستمرار في التقشف، أما من يقطن في الريف، فإضافة لما سبق، يمكن الاعتماد على الموارد الذاتية أكثر، مثل زراعة الأرض، وتوليد طاقة من مصادر الطاقة البديلة.
أما وزير الاقتصاد السابق، نضال الشعار، فقد اعتبر من خلال منشور عبر صفحته في “فيس بوك” أن “الحل يكمن بعودة السوريين في الخارج بأمان وكرامة، وانتهاء الوصاية والأبوية الظالمة على أولاد البلد، وإنهاء الصنمية وعبادة الأشخاص، الكل مواطن ولكل وظيفته، ومنح الناس حقهم في التصرف بممتلكاتهم وحق الدخول والخروج من وطنهم، وتدمير كافة الأقبية وإحترام قوس العدالة”.
في حين طالب رئيس غرف الصناعة، في حكومة النظام، فارس الشهابي، بوضع جداول لكبار المقترضين للدولار من المصرف خلال السنوات الماضية، والتحقق “هل ذهبت الأموال للإنتاج والتصدير وخلق فرص العمل أم إنها أصبحت بمعظمها في الخارج”.
كما طلب العمل بشتى الوسائل لإعادة تلك الأموال إلى البلد، و”اعادة الأموال المهدورة من قبل حفنة قليلة من الأشخاص، نستطيع وبسهولة تنزيل أسعار الصرف، أما ملاحقة ومعاقبة الصناعيين والحرفيين والتجار، فلن تجدي أي نفع وستخلق حالة من الذعر، وستعزز من قيمة الدولار في الأسواق”.
ودعاالأخير إلى “إجراء إصلاحات اقتصادية وإدارية جذرية، وسريعة تضمن تثبيته واستقراره عند حدود مقبولة لأطول فترة ممكنة”.
وكانت سعر الصرف شهد تحسناً طفيفاً، وأرجع مدير العمليات المصرفية في مصرف سورية المركزي، فؤاد علي، ذلك إلى ضرب “معاقل السوق السوداء التي تضم بعض الأشخاص والشركات ومنها شركات حوالات تلاعبت بسعر الصرف وخالفت أنظمة القطع”.