الليرتان في الشمال السوري..مصيرٌ مجهول للسورية وضبابية بآليات التركية
تداول الليرة التركية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام شمالي غرب سورية، رغم أنه ليس حديث العهد تماماً، على التعاملات النقدية التجارية في تلك المناطق، إلا أنه بات شبه رسميٍ مؤخراً، في ظل ما تشهده الليرة السورية من انهيار غير مسبوق، جعل للعملة التركية كلمة الفصل في إدلب وبعض أرياف حلب، وأنهى الجدل حول إمكانية الاعتماد على الليرة السورية، والتعويل عليها مجدداً.
وفيما بدأت فعلاً مؤسسات صغيرة أو كبيرة، بتسعير موادها بالليرة التركية، وكذلك رواتب العاملين فيها، تُطرح أسئلة كثيرة حول الخطوة، التي تأتي مع دخول “قانون قيصر” حيز التنفيذ، بالوقت الذي شهدت الليرة السورية، انهياراً وصلت معه حاجز 3000 ليرة أمام الدولار الأمريكي الواحد.
ومنذ الأسبوع الماضي، اتخذت مجالس محلية في مناطق ريف حلب، منها مارع واعزاز وصوران، قرارات بتثبيت أسعار البضائع بالليرة التركية، وتثبيت الاتفاقات المالية الصغيرة والمتوسطة بالليرة التركية، والكبيرة بالدولار الأمريكي.
كما دعت تلك المجالس إلى تثبيت الأجور بالليرة التركية، حفاظاً على أموال وممتلكات الأهالي، معتبرة أن التعامل بها هو “حبل النجاة للجميع”، بعد الهبوط “المخيف والمرعب” لقيمة الليرة السورية أمام الدولار.
وكذلك، خطت “حكومة الإنقاذ” التابعة لـ”هيئة تحرير الشام” في إدلب، خطوات مماثلة حين بدأت مؤسسات تابعة لها، الأحد الماضي، التعامل بالليرة التركية بشكل رسمي، بعد وصول كميات كبيرة من العملة التركية إلى المنطقة.
كل ذلك طرح تساؤلات حول مصير الليرة السورية في المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد، ومدى إمكانية التعامل بالليرة التركية، والآلية التي سيتم خلالها استبدال الأخيرة بالأولى.
آليات وخطواتٌ غير واضحة
وزير الاقتصاد في “الحكومة السورية المؤقتة”، الدكتور عبد الحكيم المصري، قال إن الاعتماد على الليرة التركية والدولار في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام قد يصل إلى 85%، خاصة أن تلك المناطق كانت تتعامل جزئياً بالعملتين السابقتين.
وأضاف المصري في حديث لموقع “السورية نت” أن جميع المؤسسات والدوائر الرسمية هناك سوف تتعامل بشكل تدريجي بالعملة التركية، حيث تم الإيعاز بإعطاء الرواتب والأجور بالليرة التركية، وتحديد الرسوم الجمركية على المعابر بالليرة التركية أيضاً.
واعتبر المصري أن “الليرة السورية فقدت وظائفها كمقياس للقيمة، كما أنها فقدت خاصية مهمة من خصائصها وهي القبول العام لدى الناس”، مضيفاً أن حالة اللا استقرار التي تشهدها الليرة السورية دفعت الناس إلى الإقبال على العملات الأجنبية، خاصة التركية.
أما المحلل الاقتصادي، الدكتور عبد الناصر الجاسم، اعتبر أنه من الصعب تحديد مدى التعامل بالليرة التركية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، مشيراً إلى أهمية وجود سلطة مالية ونقدية مرتبطة بسلطة إدارية مستقرة، لتحديد آليات وإمكانيات تداول الليرة التركية، في حال وجود نية لتكون عملة رسمية في تلك المناطق.
وأضاف الجاسم في حديث لـ”السورية نت” أن على المجالس المحلية الاتفاق على صيغة محددة، وافتتاح مكاتب صرافة، واعتماد ربط الليرة السورية بالتركية أو استبدال التعامل بشكل كلي، في حال أرادت ذلك، مشيراً إلى ضرورة الاعتماد على خبراء ومختصين قبل كل شيء.
ومع ذلك، اعتبر الجاسم أنه من الصعب بمكان تحديد مدى الاعتماد على الليرة التركية، وقال “نحن نسمع عن مبادرات محلية فردية، لكن الأمر يحتاج أن تقوم مناطق درع الفرات مثلاً بتنظيم إداري حقيقي ووضع استراتيجية موحدة للتعامل بالليرة التركية”، واصفاً الأمر في حال حدوثه بـ “الإيجابي”.
الباحث في “مركز عمران للدراسات الاستراتيجية” محمد العبد الله، يرى أن الإعلان الرسمي عن اعتماد الليرة التركية في الشمال السوري، من قبل “الحكومة المؤقتة” و”حكومة الإنقاذ”، كان يجب أن يسبقه خطوات وإجراءات لضمان نجاح هذا الحل.
وأضاف العبد الله في حديثه لـ”السورية نت” أن غياب وجود إدارة اقتصادية موحدة لديها القدرة على رسم السياسات الاقتصادية والتجارية، ويضمن تحقيق النمو والتنمية الاقتصادية ضمن هذه المناطق، قد يؤدي إلى فشل الاعتماد على الليرة التركية، كحلٍ بديل عن نظيرتها السورية.
وأضاف “تفتقد هذه المناطق لوجود هيئة أو كيان مالي متخصص ومقبول من مختلف الأطراف، يكون قادراً على الإشراف على كمية النقد المتداول، وعملية استبدال الليرة السورية بالتركية بالتنسيق مع الحكومة التركية، وضبط كمية التداول اليومية، ومراقبة أسعار الصرف والحد من عمليات المضاربة المتوقعة. والقدرة على ضبط انتشار عمليات تزوير الليرة التركية، وضبط تسرب القطع الأجنبي إلى مناطق النظام”.
تحدياتٌ تواجه تداول العملة التركية
من جهة أخرى، يقول الباحث العبد الله، إن الليرة التركية كانت متداولة في هذه المناطق حتى قبل الإعلان الرسمي عن هذه الخطوة، مشيراً إلى أن مدى الاعتماد عليها بشكل أكبر، سيرتبط بمجموعة من المحددات أهمها: مدى القبول الشعبي لها مقارنة بالدولار الأمريكي.
وأضاف: “كما هو ملاحظ فإن العملة التركیة غیر مستقرة بدرجة كبیرة، وبالتالي فهناك تخوف من قبل أصحاب رؤوس الأموال والتجار المحليين من اعتمادها في تعاملاتهم التجارية حرصاً على رؤوس أموالهم. لذا فإن هذه الشريحة سيكون تعاملها بالليرة التركية بحده الأدنى وفقاً لمقتضيات تيسير أعمالهم مع الجانب التركي ليس أكثر، والتي هي في جزئها الأكبر عمليات استيراد”.
ونوه الباحث في “مركز عمران”، إلى أن عمليات التبادل التجاري لا تزال مستمرة بين مناطق سيطرة المعارضة السورية والمناطق المجاورة لها، بما فيها الخاضعة لسيطرة النظام، بحكم الفائض الكبير من المنتجات والمحاصيل الزراعية لديها والتي لا تجد طريقها للتصدير عبر تركيا، وكون هذه المناطق لا تقبل التعامل بالليرة التركية، يتوجب على التجار التعامل بالدولار الأمريكي والليرة السورية لتنفيذ هذه العمليات.
وأضاف “بشكل عام أعتقد أن تداول الليرة التركية سيكون في جزئه الأكبر مرتبط بالتعاملات اليومية ذات القيم الشرائية الصغيرة، في حين سيستمر التعامل بالدولار الأمريكي للصفقات التجارية الكبيرة، وغيرها من المعاملات ذات القيم المالية الكبيرة الحجم”.
من ناحية أخرى، يلعب موضوع تحديد الأجور بالليرة التركية، عاملاً حاسماً لقبول هذه الخطوة من قبل السكان، كما يقول العبد الله، مشيراً إلى أنه مع غياب جهة قادرة على فرض منح أجور العاملين بالليرة التركية، وترك هذا الأمر خاضعاً لمصالح أرباب العمل وتقديراتهم، سيشكل حتماً مشكلة كبيرة لدى العمالة ضمن هذه المناطق.
وتابع: “أعتقد أن هذا الإجراء يحتاج لفترة زمنية لتطبيقه، وإلى ضرورة وجود جهة قادرة على ضبط وتنظيم الأجور ضمن سوق العمل في هذه المناطق”.
هل تختفي الليرة السورية في الشمال؟
التوجه نحو الاعتماد على الليرة التركية ضمن قطاعات رئيسية في الشمال السوري، أحاط الليرة السورية بمصير غامض، وسط تساؤلات عن إمكانية سحبها من تلك المناطق أو استبدالها بنظيرتها التركية، أو التعامل بالليرتين كأدنى حد.
وزير الاقتصاد في “الحكومة المؤقتة”، الدكتور عبد الحكيم المصري، لم يؤكد في حديثه لـ “السورية نت” وجود قرار بسحب الليرة السورية بشكل كامل من المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، إلا أنه حدد طرقاً عدة ينتهي معها أي وجود أو تعامل لليرة السورية هناك.
المصري قال إن من يملكون مخزوناً من الليرة السورية قد يلجأون إلى شراء مواد مختلفة من مناطق سيطرة النظام، وبالتالي يتخلصون تدريجياً مما يملكونه من العملة السورية، خاصة التجار، فيما قد يلجأ البعض إلى الصرافين الذين يقومون بدورهم بتحويل الليرة السورية إلى مناطق النظام، مضيفاً أن البعض قد يحتفظ بما يملكه من العملة السورية، ريثما تستقر الأمور.
فيما يرى المحلل الاقتصادي، الدكتور عبد الناصر الجاسم، أن الاعتماد على الليرة التركية كعملة رسمية في الشمال، في حال تقرر، يتطلب استبدال الليرة السورية وسحبها من التداول، وهنا يجب الاستناد إلى استراتيجية فنية وتقنية ونقدية حقيقة تعتمد على خبراء ومختصين، يحددونَ توقيتاً وفترة زمنية لاستبدال العملة وإنهاء التعامل بالليرة السورية.
وأضاف “لا أعلم إذا كانت سلطات الأمر الواقع شمالي سورية تفكر بهذا الأمر بشكل جدي، أو تعمل عليه، إلا أنه حل جيد ومطلب حقيقي في هذه المرحلة”، وتابع “أعتقد أن اعتماد الليرة التركية خطوة جيدة ومفيدة، لأنها تؤمّن نوعاً من استقرار التبادل والقيمة لدى المُنتِج والمُستهلك”.
أما الباحث في “مركز عمران للدراسات الاستراتيجية”، محمد العبد الله، يرى أن الليرة السورية ستبقى متوافرة في مناطق الشمال السوري، لكن مع الانتقال التدريجي إلى التعامل بالليرة التركية سيخف الطلب عليها، وبالتالي ستتقلص الكتلة النقدية من الليرة السورية في هذه المناطق بحكم الأمر الواقع، مع بقاء كميات منها لدى التجار لتنفيذ الصفقات التجارية مع مناطق النظام.
وأضاف العبد الله أن آلية سحب الكتلة المتبقية من الليرة السورية، ستعتمد بشكل أساسي على مكاتب الصرافة في هذه المناطق، ومدى قدرتها على تحويلها إلى مناطق النظام السوري ومناطق “الإدارة الذاتية”، حيث تشهد الفترة الحالية إقبالاً كبيراً على تحويل الليرة السورية إلى الليرة التركية، ضمن هذه المكاتب التي تفرض أسعار صرف لا تتقيد فيها بالسعر الرسمي، في ظل عدم وجود جهة رقابية قادرة على ضبط هذه العملية، وضمان عدم استغلال حاجة الناس لتصريف ما لديهم من الليرة السوية خوفاً من تدهورها بشكل أكبر وعدم قبولها مجتمعياً.
“ثقة المواطنين أساس التعاملات”
يقول المحلل الاقتصادي عبد الناصر الجاسم أن النقود هي “خزّان القيمة”، وبالتالي فإن الليرة السورية لم تعد تحمل أي قيمة، وأصبحت تُسعَّر وتُصرَّف بطرق مختلفة من خلال المضاربات، وعدم وضوح السياسات الحكومية المتبعة، ما أفقدها قيمتها داخلياً وخارجياً.
وأضاف في حديثه لـ “السورية نت” أن “النقود تعتمد بدرجة كبيرة على ثقة الناس بسياسات الدولة، والآن أصبحت الثقة بين المواطنين وحكومة النظام معدومة، ما خلق عندهم نوع من الوهم والخوف، أدى إلى تدهور سعر الصرف الليرة السورية”.
وانطلاقاً من ذلك، بدأت تتشكل ثقة لدى سكان الشمال السوري بالليرة التركية، حسب رأي وزير الاقتصاد في “الحكومة السورية المؤقتة”، الدكتور عبد الحكيم المصري، الذي قال إن اعتماد الليرة التركية وإعطاء الأجور بها، شكّل لدى المواطنين حالة من الاستقرار المالي، لعدم تأثّر دخلهم الشهري بانهيار الليرة السورية، وبالتالي حافظوا على قدرتهم الشرائية.
واعتبر أن التجار وأصحاب المحلات لن يتعرضوا لخسائر كبيرة، كما هو الحال في مناطق النظام، على اعتبار أن الليرة التركية والدولار يشهدان استقراراً نسبياً، قد ينعكس إيجابياً على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في الشمال.
ومع ذلك يرى المحلل الاقتصادي عبد الناصر الجاسم، أنه في حال الاعتماد على الليرة التركية كعملة رسمية في الشمال السوري، فإن الليرة السورية لن تتأثر بشكل مباشر، لوجود عوامل أكبر تؤثر في سعر الصرف، وعلى رأسها دخول “قانون قيصر” حيز التنفيذ، وعدم ثقة المواطنين بالدولة ومؤسساتها وحكوماتها.