يختلف رد الفعل الإيراني حيال احتجاجات السويداء المرشحة للتفاقم في عموم الخريطة السورية، بين اليوم، وبين ما حدث في بدايات ثورة العام 2011، من ناحية علنيّة التدخل وسرعته هذه المرة، ومحاولة استباق التطورات على الأرض عبر الترويج لجبهة حرب جديدة في شرق البلاد. مما يؤشر إلى استشعار “المحور الإيراني” لخطورة المشهد في سوريا، وخشيته من الاضطرار إلى خوض حرب طويلة مع السوريين، مكلفة مادياً وبشرياً وسياسياً، لمحاولة إنقاذ نظام الأسد، مجدداً.
لم يختلف التوصيف الإيراني للمظاهرات في سوريا، في العام 2011، عن تلك الجارية في السويداء اليوم. إذ وصفتها طهران، قبل 12 عاماً، بأنها “مؤامرة خارجية افتعلها الأعداء لتهديد النظام السوري وضرب الأمن والاستقرار في سوريا”. لكن الإيرانيين كانوا يومئذ أكثر تحفظاً، على صعيد الخطاب العلني، وقالوا إن تعامل النظام مع هذه المظاهرات “شأن داخلي”. وتطلب الأمر حتى مطلع الشهر الثاني من الثورة، حتى تبدت مؤشرات دعم إيراني جليّة للنظام، متمثلةً بتزويد أجهزة أمنه بمعدات وخبرات تقنية لمراقبة المحتجين وملاحقتهم. وتطلب الأمر حتى أيار/مايو 2013، كي يعترف الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، بالقتال في سوريا إلى جانب النظام. مبرراً ذلك بالخشية من “التيار التكفيري” الذي سيطر على المعارضة السورية، والخطر الذي يمثّله على “العيش الواحد في لبنان”، بحسب وصفه حينذاك.
أما اليوم، فتطلب الأمر فقط، دخول الحراك الاحتجاجي في السويداء، أسبوعه الثاني، كي تخرج شخصيات محورية في “المحور الإيراني” لتقدم خطاباً عاليَ النبرة، يؤكد توصيف “المؤامرة” حيال ما يحدث، ويضيف إشارات إلى استنفار ذاك “المحور” لدعم نظام الأسد، والتلويح بالقتال مجدداً، دفاعاً عنه.
وكان النظام هو من هندسَ رد الفعل الاستباقي حيال احتمال اندلاع احتجاجات في الشارع السوري، من جراء التدهور المعيشي، قبل حتى أن تندلع تلك الاحتجاجات بالفعل. إذ، وبعيد حملة من ناشطين ينتمون للحاضنة المقرّبة منه، تضمنت سقف نقدٍ غير مسبوق لرأس النظام شخصياً، حصلت تغيرات في مواقف بعض هؤلاء الناطين، في حين اعتُقل آخرون، مما يؤكد الضغط الأمني على بعضهم، وتطويع بعضهم الآخر. وفي رصد السردية التي اعتمدها ناشطان على الأقل، في تبرير تغيير مواقفهما من النظام، يمكن لحظ التبرير ذاته، وهو التحذير من حرب مقبلة في الجبهة الشرقية، وفق ما قال بشار برهوم، بشكل صريح، معلناً أن “لا صوت يعلو على صوت الحرب”، لتبرير الوقوف إلى جانب رأس النظام، الذي كان موضع انتقاده المباشر، قبل ذلك بفترة وجيزة، وبشكل أقل مباشرة، في تسجيل لـ لمى عباس، حذرت من الحرب والفوضى، بحسب وصفها. تزامن ذلك مع ترويح الإعلام شبه الرسمي، خاصة صحيفة “الوطن”، لأنباء قالت إن مصدرها عراقي، تفيد بتحركات عسكرية أميركية، مثيرة للريبة، توحي بنية القيام بعمل عسكري، بغية قطع طريق طهران – دمشق، عند الحدود السورية – العراقية.
ورغم النفي الأميركي، الذي رافقه نفي من “قوات سوريا الديمقراطية – قسد”، لأية نية بالقيام بعملية عسكرية، صعّد “المحور الإيراني” من سرديته التي انتقلت من إعلام النظام غير الرسمي، لتصبح سردية مُتبناة من شخصيات بارزة داخل هذا “المحور”، (رئيس الوزراء العراقي الأسبق، نوري المالكي، والأمين العام لحزب الله)، قبل أن يتبناه وزير خارجية النظام، فيصل المقداد، بشكل مباشر، في مؤتمره الصحفي مع نظيره الإيراني الذي تبنى بدوره هذه السردية، بشكل غير مباشر، في أثناء زيارته ذات التوقيت اللافت إلى دمشق.
أما أبرز ما ميّز هذه السردية في خطاب “المالكي ونصر الله”، والمنظّرين المحسوبين على “المحور الإيراني”، فهو ربط تلك العملية العسكرية الأميركية المزعومة باحتجاجات السويداء بوصف الأخيرة جزءاً من “المشروع الأميركي”، بحسب تعبير الأمين العام لحزب الله. واللافت أكثر، أن الصدام بين “قسد” و”مجلس دير الزور العسكري الذي فجّره اعتقال قائد المجلس أحمد الخبيل، جاء في التوقيت ذاته الذي يدعي فيه أبواق “المحور الإيراني” أن واشنطن بصدد التحضير لعمل عسكري في شرق سوريا، وهو ما يؤكد ما سبق أن ذهب إليه أكثر من محلل بأن الفصائل السورية المسلحة التي تستند إليها الولايات المتحدة الأميركية غير منسجمة وغير قادرة على القيام بعمل عسكري نوعي ضد الميليشيات الإيرانية الضخمة العدد والعُدة المتمركزة في الشطر الغربي من نهر الفرات، جنوب دير الزور. أو إن أردنا اعتماد تفسير آخر، فإن توقيت تفجر هذه الاشتباكات داخل أبرز المكونات المحلية المسلحة المتحالفة مع الأميركيين، يؤشر إلى اختراق إيران لتلك المكونات، ووجود أطراف داخلها -سواء داخل “قسد” أو حتى قريبة من “مجلس دير الزور العسكري”- على تنسيق مع الإيرانيين.
وهكذا يتضح أن الواقع يعاكس السردية التي يعلنها “المحور الإيراني”. فالأخير هو من يريد توتير الأوضاع في مناطق سيطرة الأميركيين. فيما لا تبدو واشنطن راغبة، أو تملك الأدوات الكفيلة بإغلاق الحدود السورية – العراقية أمام حركة الإيرانيين. وهكذا فإن “المحور الإيراني” يستخدم “الحرب المزعومة” في شرق سوريا، بوصفها أداةً لشيطنة الحراك الاحتجاجي المرشح للتفاقم في سوريا، كخطوة استباقية لتبرير الانخراط في قمعه إلى جانب النظام، في حال خرج عن السيطرة، كما حدث في الـ 2011. ولأن لا تكفيريين يمكن ربطهم باحتجاجات السويداء الآن، فكانت الذريعة هذه المرة، الارتباط بمشروع أميركي، تتبدى مؤشرات تنفيذه في شرق سوريا، بحسب سردية النظام وحلفائه. بل أبعد من ذلك، يبدو أن مشروع هؤلاء، قد يذهب باتجاه فتح جبهة صراع مسلحة بالفعل، في شرق سوريا، رهاناً على عدم رغبة الإدارة الأميركية في التورط بنزاع مسلح، في توقيت قريب من السنة الانتخابية، الأمر الذي يجعل صنّاع القرار الإيراني يراهنون على دفع واشنطن للانسحاب من شرق سوريا، وفي الوقت نفسه، يمكن استخدام هذه الحرب كوسيلة ضغط لإسكات أية أصوات محتجة على التدهور المعيشي في الداخل السوري. فالنظام محكوم بالحرب، كوسيلة للديمومة. إذ بغيابها يصبح من المنتظر في عُرف السوريين أن تعود حياتهم إلى طبيعتها، وهو ما يُلقي على كاهل النظام مسؤوليات لا يملك القدرة على الوفاء بها، في ظل استشراء الفساد وتحكم عقلية “اقتصاد المافيا” في منظومته برمتها.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت