ربما يكون التنظير والتحليل إبان جراحنا المفتوحة هرطقةً، وإرهاقاً للغةِ تخلى أبنائها عن مسؤولياتهم الانسانية (وربما الأفضل أنهم تخلوا)؛ لكن قدرنا أن ننفض غبار الخيبات والانتكاسات، وأن نحاول الوقوف مجدداً استجابةً لدرب الحرية الذي نريد؛ وإكراماً لفواتير الدم والقهر التي استحوذت تفاصيل تاريخنا منذ صرخة الحرية، التي أطلقها الشعب السوري في آذار 2011.
ما نشهده (كثورة وثوار) منذ مطلع هذا العام، خلطةً من ضياع البوصلة وموت القرار الوطني من جهة، وأحلام المنتفعين وطموحات المارقين من جهة ثانية، وصراخُ وطنٍ يعتلي نعشه مستبدٌ كرّس كل الدولة والمجتمع ومواردها في سبيل بقائه؛ صراخٌ يتلاقى مع أزيز رصاص الغدر واللامبالاة، يصوبه مستثمري الايديولوجية والعقيدة تجاه أحرارٍ رفضوا الذل والاستكانة من جهة ثالثة؛ ومن جهة أخيرة موجعة فالخلطة التي نعيشها هي مزيج أحاسيس تجعلنا نسمع باستمرار جبروت البرد الذي خطف أرواح أهل لنا افترشوا السماء خيمة لهم ونردد بذات الوقت “جنة جنة “.
يرسم واقعنا الراهن إبان معارك ريفي حلب وإدلب، مشهداً بعشرة عناصر تشكل بمجموعها ميداناً انتكست فيه جل الحوافز والممكنات الدافعة للاستمرار؛ إلا أنه يُبقي عشرة أخرى، كميادين نضال وكفاح لا مناص لنا إلا الولوج بها، والسير قُدماً رافضين وهبِ “النصر” لمن بات صرحاً في الهزيمة والإذلال. أما عن العشرة الأولى فنحصرها بالآتي:
1- إعادة ترسيم الحدود في مناطق المعارضة عبر ابتلاع متسارع للمناطق والقضم “المتوافق عليه” وحصرها بجيوب.
2- استمرار استراتيجية قهر وتشريد السوري الثائر ؛ استراتيجيةٌ يشترك بها الجميع طالما يرى أن هذا السوري سر تحصين حكمه وصيانة أمنه.
3- لا تزال مشاريع التسلط قابلة للاستثمار والتوظيف في سبيل تشويه المسار وخلق المسوغات الدافعة لمحاصرة الثورة؛ سواء ارتدت قبعة ماركسية أو لباساً دينياً؛
4- بعد أن أفرغت العملية السياسية جل الاستحقاقات الوطنية وألتفت على درب الانتقال والتغيير السياسي؛ باتت تنتظر ما ستخطه الجغرافية من سيطرة جديدة واتفاقات أمنية جديدة، حتى تنطلق من جديد بلا أي هدى سوى أنها تنحو باتجاه شرعنة الاستبداد.
5- إعادة تصنيف المعارضين كافة؛ سياسيين أو عسكريين أو مدنيين ما بين (إرهابي، مناصر لإرهابي، داعم لإرهابي)، وهذا يحتاج لمؤشرات أكثر حتى يغدو نهجاً.
6- مع تنامي “التبعية” وشبه استحكامها على ما تبقى من قرار، يتزايد تعويل على مواقف دولية واقليمية لتحسين الموقف السياسي أو العسكري أو المدني رهانات ثورية وإقليمية وهمية تغيب أي فرصة لمبادرة توقف المأساة.
7- “رهان” سوريالي على مسار سياسي تاه أجندةً ومكاناً، مسارٌ تتبدل فيه مواقع ممثلي الثورة وفق حسابات الميوعة واللاموقف، ويقابله استعصاءٌ في الانتقال من حيز التفكير في إعادة التشكل السياسي إلى أجابات سؤال كيف.
8- بعجز جمعي (مقصوداً كان أم غير مقصود) عن فعل ما، أو مبادرة ما، حيال المأساة الانسانية خارج حدود الاستجابة الطارئة، والتي هي الأخرى باتت بمهمةٍ شبه مستحيلة.
9- اللامبالاة لما يجري في ادلب فكثير من السوريين (المؤيدين منهم أو الصامتين أو المعارضين بنكهة استشراقية) لا يأبهون لما يجري في ريفي حلب وإدلب فهي بنظرهم نقط سوداء رفضت معايير الحداثوية.
10- بالرصاص نُرمى، بل أقسى، عندما نسمع من يعتبرون أنفسهم محللين ومستشرفين، وهي المهنة الأكثر استباحة في سورية، فما بين حسن الكلام، وقراءة المصالح وتقاطعها وتلمس حدود الممكن فرق شاسع؛ نعم هم ذوي رتبة “بطل ركن” في تطبيق منهجية الأميّة السياسية.
ربما ما لم أذكره صراحة أعلاه، أثناء محاولتي لتلمس العناصر الرئيسية في مشهدنا الثوري العام، هو أنه مشهد قاتمٌ، يحاصر أمل لايزال صوته يصدح في أزقة وجدان الثورة والثوار لا سيما أن كلفه باهظة جداً جداً؛ إلا أن الدرس الأبلغ أتى مِن مَن جمع بقاياه، والتحفَ البرد والثلج رافضاً الاعتراف بالهزيمة، ورافضاً منح قاتله ومُهجّره صكَ هزيمته، وبهذا رسالة نصر علنا ندركها؛ ونعي ما ينبغي فعله، فحقول الممكن لاتزال تخبرنا بالعديد من الهوامش والخيارات؛ أذكر منها عشرة:
1- دراك التموضع الراهن (جغرافية وهوامش حركة سياسية) وما يمليه من ضرورة الانتفاضة ومقاومة كل مسببات التراجع؛ وأن ندرك ونحن نخط أهدافنا المرحلية أن النضال السياسي يختلف عن الأمنيات وعن التخيل السياسي.
2- أولوية المُناصرة والدعم للملف الانساني كل حسب مكانه؛ وتعزيز فكرة أن تدار هذه الجهود بأجندة وكفاءات وقيادات وطنية تستطيع التحرر من قيود شروط الداعم ومحاذيره.
3- حملة أهلية ضاغطة على الهياكل العسكرية والأمنية والأدارية فيما تبقى من جغرافية؛ وذلك لبلورة نمط رشيد للحكم، فهو خط دفاع محكم لأي انهيار محتمل لما تبقى؛
4- على أحرار سورية توجيه خطابات ودعوات سياسية لكل السوريين دون تمييز، توضح لهم حجم الخسائر وتدعوهم للتكاتف وللنضال لمواجهة الاستبداد، ولصد كل محاولات إعادة التعويم والشرعنة الأيلة بالتشكل؛
5- تشكيل مجموعات ضغط سورية، في دول اللجوء تستقي من مجموعة الضغط السورية التي تعمل على استصدار قانون قيصر، ونحجت نموذجاً للعمل، تهدف لقطع كل الطرق أمام عودة هذا النظام وشبكاته.
6- من باب تحسين الأداء و فاعلية المشاركة: الضغط على سياسي المعارضة الرسمية، لمنع تقديم أي تنازل أو الدخول في ملاعب البراغماتية الشخصية، أو بهلوانات الواقعية السياسية، وذلك عبر العديد من المؤتمرات الداعمة لهذا الضغط.
7- التسارع إلى تشكيل جبهة سياسية ثورية شبابية، تضم مابقي من أواصر وروابط، وتجتمع تحت شعار ثورة العز والكرامة ثورة لكل السوريين.
8- حملات مناصرة في أوروبا وأمريكيا لوقف اطلاق النار الفوري وضمان عودة الاهالي؛ ولا مناصَ من تأسيس حراك اجتماعي منظم في هذه البلاد، لتكون بمثابة خلية التفكير لشباب الثورة.
9- الابتعاد عن كل ما يشوش الرؤية من صراعات دينكشوتية، لا تسمن ولاتغني من جوع وحصر التركيز كله بإدلب، فما بعدها لن نستطيع عدَّ الخسائر.
10- أبلغَ الخسارات وأوجعها هي نكران السردية، وجلد الذات المجاني واللطم، فالتمسك بالثورية كهوية وفعل نضالي إنما هو فعل استراتيجي ما بعده فعل.
بإيدينا، سنمسح دمائنا وسنضمد جروح وجوهنا المتعبة، بأيادينا التي ظنوها شُلت؛ وسننفض عن عيوننا وهم الأماني وأطروحات الانهزام، بأعيوننا التي غطاها الدمع والأسى؛ لا وقت للتباكي … لا وقت للطم … لا وقت لليأس؛ فجعبة الثورة السورية مليئة بالأبطال، ليس آخرهم من قرر أن يقاوم حتى آخر نفس؛ وليس آخرهم من واجه بمفرده جيشاً في معرة النعمان؛ فما تم ليس نهاية؛ بل درسٌ ينبغي أن نعي كل خلاصاته ونبدأ من جديد بكتابة واجباتنا.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت