“هبوط ثم استقرار ثم تراجع”، هو حال الليرة السورية أمام الدولار، خلال الأشهر الـ 16 الماضية، إذ لامست حدود خمسة آلاف ليرة للدولار الواحد في الأشهر الأربعة الأولى من 2021، قبل أن تستقر عند حدود 3500 و3700 ليرة سورية لعدة أشهر.
وخلال الشهرين الماضيين، بدأت الليرة بهبوط متسارع أمام الدولار حتى وصل إلى حدود 4500 ليرة للدولار الواحد، ما أدى إلى تخبط في أسعار المواد والسلع في الأسواق.
حالة الارتفاع الأخيرة في سعر الصرف طرحت إشارات استفهام حول الأسباب الكامنة وراء ذلك، خاصة مع عدم تغير الظروف وبقائها على حالها سواء كانت أمنية أو سياسية أو اقتصادية.
إذ وبعد ثبات الليرة السورية بشكل جزئي من منتصف العام الماضي أمام الدولار بين 3600 و3700 ليرة، بدأت منذ مطلع أيار/ مايو الماضي، بالهبوط حتى وصلت إلى حدود 4500 ليرة مقابل الدولار.
ودفع الانخفاض الكبير لليرة والتخوف من تأثيره على الأسعار في الأسواق، مصرف النظام المركزي، إلى إصدار بيان في 14 أغسطس/ آب الماضي، أكد فيه “على المتابعة والمراقبة المستمرة لعمليات تداول الليرة السورية في سوق القطع الأجنبي”، معلناً “التدخل باتخاذ الإجراءات اللازمة لوضع حد للمضاربين والمتلاعبين بسعر الصرف”.
في حين أرجعت وسائل إعلام النظام الرسمية سبب التدهور السريع، إلى المضاربين الذين وصفتهم صحيفة “البعث” بـ“لصوص الصرف”، وقالت إن “هؤلاء اللصوص معروفين من قبل الجهات المعنية، ومع ذلك لا يتوانون عن تجديد نشاطهم المشبوه بعد أن يمروا بفترة سُبات تترافق مع استقرار سعر الصرف، ليعاودوا خلط الأوراق بما يخدم تضخيم ثرواتهم”.
وكان رئيس النظام، بشار الأسد، اعتبر في مارس/ آذار العام الماضي، بأن “معركة سعر الصرف تقاد من الخارج والجزء الأكبر منها هي حرب نفسية”.
أسباب داخلية وخارجية
إلا أن محللين اقتصاديين يعزون هبوط الليرة السورية الأخير، إلى عدة أسباب منها داخلية وخارجية.
وحسب محللين اقتصاديين تحدثوا لـ”السورية.نت”، فإن أول الأسباب الخارجية تعود إلى التضخم العالمي الحاصل وخاصة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، والتي جاءت بعد كارثة فيروس كورونا وما نتج عنها من ارتفاع الأسعار بشكل كبير، إضافة إلى التصعيد الأمريكي- الصيني في تايوان، والمؤشرات السلبية عن اقتصاد الصين والخوف من ركود اقتصادي، وهذا كله أدى إلى ارتفاع الأسعار في كل دول العالم وخاصة في الدول التي تعتمد سورية على الاستيراد منها.
كما أن قيمة الدولار الأمريكي ارتفعت مقابل جميع العملات وليس فقط الليرة السورية، بسبب الخوف في الأسواق العالمية وحالة التذبذب الكبيرة، إذ يعتبر الدولار من الملاذات الآمنة للمستثمرين الذين لديهم نزعة حول تملك الدولار، ما يسهم في ارتفاع الطلب عليه وزيادة قيمته.
أما الأسباب الداخلية، فترجع حسب الدكتور في العلوم المالية والمصرفية فراس شعبو، إلى رفع حكومة الأسد لأسعار المشتقات النفطية والدعم عن كثير من المواد، إضافة إلى اعتماد حكومة النظام على الاستدانة الداخلية من خلال طرحها مزادات أذونات خزينة لمصارف محلية.
وأوضح شعبو لـ”السورية.نت” أن الموازنة العامة تعاني من عجز بنسبة 40%، وتحاول حكومة الأسد سد العجز من خلال الاستدانة الداخلية أو رفع الدعم، مشيراً إلى أنه من الأسباب أيضاً هو أن حجم الاستيراد أكبر من حجم التصدير وبالتالي من الطبيعي تدهور قيمة العملة.
أما الدكتور في الاقتصاد، كرم شعار، فقد اعتبر خلال حديثه لـ”السورية.نت”، أن الأسباب الداخلية هي نفسها مرتبطة بعدم حصول المصرف المركزي على كميات من القطع الأجنبي لتمويل حاجة سورية، مؤكداً أن “الحالة هي عامة خلال السنوات الماضية مع فترات تحسن وفترات سوء، لكن حالياً يصل للبنك المركزي من القطع الأجنبي أقل مما يحتاج إليه وهو ما انعكس على سعر الصرف”.
ويرى شعار أن احتياطي المصرف قد نفد، وهو دائماً في حالة عجز بالقطع الأجنبي، ما ينعكس على سعر الصرف، مشيراً إلى أن استقرار سعر الصرف دليل على وجود تدفقات للمصرف المركزي من القطع الأجنبي، لكن حالياً فإن انخفاض قيمة الليرة، دليل على عدم وجود أي تدفق من الدولار.
أما الباحث الاقتصادي، يونس الكريم، فقد أرجع أسباب تدهور قيمة الليرة إلى عدة أسباب، أولها العقوبات الاقتصادية التي جعلت تكلفة الحصول على المواد مرتفعة، وبالتالي انعكس ذلك على أسعار السلع، إضافة إلى أن خزينة البنك المركزي باتت فارغة نتيجة التشديد بالحوالات المالية.
كما أوضح الكريم خلال حديثه لـ”السورية.نت”، أن من الأسباب أيضاً، زيادة الطلب على الدولار في السوق السوداء لسببين، الأول لتمويل المستوردات، والثاني يعود إلى محاولة الناس الخروج من سورية وبيع ممتلكاتها بالدولار، إلى جانب تعنت حكومة الأسد بعدم التداول بالدولار والصراع بين أمراء الحرب في الاقتصاد.
من أين يحصل المركزي على الدولار؟
وتدور تساؤلات حول مصدر القطع الأجنبي التي يحصل عليها المصرف المركزي، في ظل ضعف الإنتاج والتصدير إلى الخارج، والتي تعتبر المصدر الأول للقطع الأجنبي في أي دولة.
واعتبر الكريم أن أحد واردات المركزي من القطع الأجنبي هي تجارة “الكبتاغون”، حيث يتم برأيه، وضع الأموال في البنك المركزي.
وصدرت تحقيقات ودراسات سابقة لوسائل إعلام ومراكز أبحاث، حول تحول سورية إلى مركز لتصنيع الحبوب المخدرة وتصديرها إلى الخارج، تحت إشراف مسؤولين كبار.
وحسب دراسة صادرة عن مركز “COAR” للتحليل والأبحاث (كوار)، في نهاية أبريل/ نيسان 2021، فإن “قيمة صادرات سورية السوقية من الكبتاغون فقط، أكثر من 3.46 مليار دولار أمريكي في 2020”.
في حين أصدر “مركز الحوار السورية” ورقة بحثية عن تجارة المخدرات في سورية، في مارس/ آذار الماضي، قال فيها إن “حجم الاتجار بالمخدرات بحسب التقديرات وصلت إلى 16 مليار دولار سنوياً، وهذا ما يوازي ضعفي ميزانية حكومة نظام الأسد”.
أما المورد الثاني للمصرف المركزي في سورية، حسب الكريم، فهو الحوالات المالية التي تعتبر تركيا ولبنان والإمارات من البلدان البارزة في التحويل.
وكانت صحيفة “الوطن” شبه الموالية نقلت عن نائب عميد كلية الاقتصاد، علي كنعان، قوله إن “المصرف المركزي بين أن حجم الحوالات الرسمي التي تصل عبر شركات الصرافة المرخص لها بالعمل يومياً بحدود 7 ملايين دولار، في حين يرتفع هذا الرقم مع احتساب الحوالات التي تصل بطرق غير رسمية، حيث يقدر حجم هذه الحوالات التي تصل بطرق غير رسمية ما بين 3-5 ملايين دولار يومياً”.
أما المورد الثالث للبنك المركزي، فيعود إلى “تجارة المعابر والسلع التي تأتي عبر الحدود”، وهي المعابر بين سورية مع الأردن ولبنان والعراق.
هل اقترب طرح فئة 10 آلاف؟
مع ارتفاع الأسعار بشكل كبير ومستويات التضخم إلى مستويات كبيرة، وانخفاض قيمة الليرة السورية، عادت التوقعات إلى استعداد المصرف المركزي طرح ورقة نقدية من فئة 10 آلاف ليرة سورية.
وقالت وزيرة الاقتصاد السابقة، لمياء عاصي، عبر صفحتها في “فيس بوك”، إن “طرح ورقة نقدية من فئة جديدة، عشرة آلاف مثلاً، بغية تسهيل العمليات اليومية من شراء وبيع، بعد أن تدنت القوة الشرائية كثيراً للعملة الوطنية، لا تحتاج إلى تمهيد”.
واعتبرت أن طرح الورقة النقدية تحتاج إلى “ثقة الناس بتصريحات المسؤولين الاقتصاديين، بأن إصدار الورقة الجديدة، لن يؤدي إلى زيادة المعروض النقدي الموضوع بالتداول، والذي سيؤدي حتماً إلى ارتفاع في معدل التضخم وإلى المزيد من ارتفاع الأسعار”.
إلا أن مصرف سورية المركزي نفى في مايو/ أيار الماضي، الأخبار المتداولة عن طرح ورقة الـ 10 آلاف ليرة، واعتبر أن ما يشاع هو “آراء اقتصادية لخبراء غير مستندة إلى نية أو فكرة مطروحة من قبل مصرف سورية المركزي حول طباعة أو إصدار أي فئة جديدة من الأوراق النقدية”.
كما نقلت صحيفة “الوطن” في التاسع والعشرين من الشهر الماضي، عن مصدر في المصرف قوله إن “المصرف لا يملك ورقة الـ 10 آلاف ليرة، وليس لديه نية أساساً لطباعتها في الوقت الراهن”.
وأضاف أن “كل من يروج لهذه الفكرة عليه أن يتوخى الدقة، وخاصة إن كانوا صحفيين أو محللين اقتصاديين أو مسؤولين سابقين، لما يمكن لتصريحاتهم التي لا أساس لها من الصحة أن تترك من أثر على الرأي العام”.
من جانبه اعتبر شعبو أن طرح ورقة الـ 10 آلاف هي مسألة وقت ليس إلا، وقد تطرح مع بداية العام المقبل، مشيراً إلى أن ارتفاع الأسعار الكبير وعدم قدرة الحكومة على ضبطها مؤشر قوي على قدوم ورقة الـ 10 آلاف.
واكد أن هناك عملات في سورية خرجت عن التداول تقريباَ، مثل فئة 50 و100 ليرة وحتى 200 ليرة سورية، بسبب ارتفاع الأسعار.
في حين اعتبر الكريم أن طرح ورقة الـ 10 آلاف لا يمكن حالياً لعدة أسباب، أولها “تكلفة طباعة الورقة الواحدة هي 25 و50 سينتاً، حسب جودة الطباعة والبلد التي ستطبع به كالجزائر سابقاً أو روسيا أو إيران، وبالتالي عدم توفر الأموال لكلفة الحصول على هذه الأوراق المطبوعة.
السبب الثاني يعود إلى وجود كتلة مالية ضخمة في التداول بالأسواق، وبالتالي طباعة أي عملة سيزيد الأمور سوءاً، وخاصة أن القدرة الشرائية للمواطن السوري باتت منخفضة وسلم الرواتب باتت منخفض.
وأوضح الكريم أن طرح ورقة نقدية جديدة ليست الحل، لأن الرواتب منخفضة والقدرة الشرائية للمواطن منخفضة، وستؤدي إلى ارتفاع الأسعار وزيادة التضخم.
التمويل المخفض
وتزامناً مع هبوط الليرة السورية، أصدر المصرف المركزي قراراً حصر فيه تمويل ثلاثة مواد بسعر التمويل المخفض، وهذه المواد هي القمح والأدوية وحليب الأطفال، مرجعاً السبب إلى ارتفاع تكاليف توريد المواد.
ويعني “التمويل المخفض” منح المصرف المركزي القطع الأجنبي للتجار بسعر صرف أقل من السعر الرسمي بهدف استيراد المواد الثلاثة.
ويبلغ سعر صرف الدولار الرسمي أمام الليرة السورية 2525، في حين يبلغ سعر الصرف في نشرة المصارف المعتمدة من قبل المصرف 2800 ليرة، أما سعر الصرف في السوق السوداء فقد وصل هذه الأيام إلى 4500 ليرة للدولار الواحد.
وقال الدكتور في العلوم المالية والمصرفية فراس شعبو، إن المصرف المركزي توجه إلى تمويل المواد الثلاثة التي تعتبر أساسية بهدف تأمينها في الأسواق وتخوف من انقطاعها وارتفاع أسعارها، خاصة أن استيراد هذه المواد بسعر الصرف الرسمي مكلف جداً للتجار.
وأضاف شعبو أن “سياسة المصرف لن تنجح في ظل الفساد وتغلغل التشبيح المالي في الدولة”، في حين لن يكون لها أثر على الأسواق وسترتفع الأسعار بشكل كبير على المواطنين.
أما الباحث الاقتصادي يونس الكريم، فقد حدد نقطتين وراء القرار، الأول هو دليل بأن أسعار السلع باتت محررة وبالتالي مقبلين على موجة ارتفاع الأسعار.
أما النقطة الثانية، هي محاولة المصرف المركزي القول بأن النظام ما زال يدير مؤسسات الدولة.
وأرجع الكريم سبب اختيار المواد الثلاثة فقط دون غيرهم، إلى أن “حليب الأطفال يعتبر سلعة أساسية لا يمكن تركها وفق العرض والطلب، ما يؤدي إلى ارتفاع سعرها وعدم قدرة المواطن على شرائها، ما يحرج النظام أمام حاضنته، إضافة إلى أن القمح تعتبر المادة الأساسية لدى المواطنين وتخوف من ثورة جياع في حال فقدانه”.