المفتي العام الأول بشار الأسد

بديناميكية مفقودة لدى هيئات المعارضة عموماً، اجتمع المجلس الإسلامي السوري وانتخب مفتياً عاماً، فقط بعد أربعة أيام من إلغاء بشار الأسد هذا المنصب وإيكال مهامه إلى “المجلس العلمي الفقهي”. الأكيد أنه لا وجود لاستحقاقات عاجلة لدى سُنّة سوريا تستدعي هذه السرعة، وانتهاز المجلس فرصة إلغاء المنصب للاستحواذ عليه قد يبدو نوعاً من الشطارة للوهلة الأولى، إلا أنه بقليل جداً من التفكير يجوز تأويله بوصفه قبولاً فيما مضى بوجود أحمد حسون “مفتي الأسد” مفتياً لسوريا، وضمن ما هو معروف عن المفتي السابق فالقبول به كأنه قبول ببشار الأسد كمفتٍ عام أول.

في التعبير الأخير لا نغادر ما يعرفه السوريون لجهة الألقاب التي ورثها الأسد الابن من أبيه، على شاكلة المعلم الأول والفلاح الأول والمحامي الأول..إلخ، وغايتها احتكار تمثيل كافة فئات المجتمع، مع التنويه بأن بشار الأسد فاق أباه “جرأة” في التعامل مع الدين فراح يحاضر في رجاله عن الإسلام القويم والصحيح. وتجرؤ بشار على الوعظ لا جديد فيه إلا في الظاهر، إذ من المعلوم أن رجال الدين هؤلاء يأتمرون بأمره، ولن يصدر المفتي الذي في الواجهة أية فتوى ذات وزن من دون الرجوع إلى المفتي الأكبر والأول.

مع إلغاء بشار منصب المفتي صوّب معارضون سهامهم تجاه التأثير الإيراني، فرأوا في القرار أيادٍ إيرانية تهدف إلى القضاء على السُنّة وهويتهم. من هذه الجهة أيضاً هناك اعتراف ضمني بشرعية سيطرة الأسد على “السلطة” الدينية، الاعتراف الذي يبدو مشروطاً فقط بالحفاظ على الهوية المذهبية، وكأن المشكلة مع إيران وتبشيرها الشيعي وليست مع استبداد الأسد وتبعاته على كافة المستويات. الإشارة إلى عَلَوية الأسد في هذه المناسبة أتت ملحقة بالشق الإيراني، لأن التركيز عليها منفردة يُفقد المعترضين مصداقيتهم فيما يتعلق بسكوتهم عن سيطرتها على المؤسسة السُنية أيام الأب ثم الابن.

المشكلة، كما صوّرها معارضون إسلاميون، هي في اعتداء على هوية مذهبية انطلاقاً من ضغينة مذهبية. نظرياً، يمكن حل المشكلة بتراجع المعتدي، بأن يصدر بشار قراراً بإعادة منصب المفتي، وفق مهامه التي استقرت لعقود سابقة، وهكذا لا يبقى من ذريعة لوجود مفتٍ على الضفة المقابلة سوى التنازع السياسي على المنصب، وبما أن التنازع سببه إلغاء المنصب ينبغي الكفّ عنه لصالح إعادة الوضع إلى ما كان عليه.

على صعيد متصل، لو لم يكن بشار علَوياً أو مرتهناً لإيران، لن يكون ثمة اعتداء مذهبي، والفكرة المبسطة القارّة في العقول هي أن رئيساً سُنياً لن يلغي المنصب، لتبقى الفكرة في وجود المنصب، لا في آليات عمله وعلاقته بالسلطة. استطراداً، سيبقى الفهم ذاته الذي يرى العيب في التطبيق، ليبقى الأصل خارج المساْلة، فرجال الدين التابعون للأسد هم “خونة” في أسوأ نعت و”مساكين” مغلوبون على أمرهم لمن يود إيجاد أعذار مخففة لهم، وفي كل الأحوال من دون المسّ بعلاقة السلطة بالدين وبالمؤسسة الدينية.

لو أن قرار المجلس الإسلامي تعيين مفتٍ أتى في ظروف مغايرة للانقسام الحالي لربما كان فيه دلالة مغايرة، أي لربما أمكن فهمه كمحاولة لانتزاع المؤسسة الدينية من هيمنة السلطة. لكنه حالياً صدر عن مؤسسة تعتبر نفسها ضمن مشروع سياسي معارض، وهي بناء على ذلك تعِدّ نفسها لاستلام السلطة “نظرياً على الأقل”، وهكذا يكون المفتي الجديد الشيخ أسامة الرفاعي مفتياً للسلطة التي هي الآن مع وقف التنفيذ لظروف خارجة عن إرادة أصحابها. بهذا المعنى لا وجود لتغيير يمس علاقة مؤسسة الإفتاء بالسلطة، فهي ستبقى ضمن مؤسسات الأخيرة رغم تنويه المجلس الإسلامي بموضوع الانتخاب من قبل علماء، إذ يمكن مجادلة المجلس بأن علماءه الذين انتخبوا الرفاعي بالإجماع لا يمثّلون الكفاءات الفقهية السورية، مثلما لا يمثلها نظراؤهم تحت سيطرة الأسد على حد سواء.

لا يفوت بعض إسلاميي المعارضة “على الأقل” وجود تجارب مشابهة لسلطات عربية، يرأسها سُني ووضع المؤسسات الإسلامية ليس أفضل من شبيهتها السورية لجهة الارتهان للسلطة. هنا أيضاً يضع الإسلاميون الملامة على السلطة الراهنة، السلطة التي تصطنع فقهاء السلطان على مقاسه، أو تروّض ما كان موجوداً من قبل ليلائم المقاس الجديد. ما يفتقر إليه هذا التحليل يتلخص بالمراهنة على إمكانية إقامة سلطة تكون المؤسسة الإسلامية جزءاً أساسياً منها، من دون أن تخضع لمزاج ومتطلبات الحاكم الإسلامي وفق التصور نفسه. إنه تصور نظري، وسيبقى نظرياً، لأن أية سلطة حاكمة ستسعى إلى تكييف المؤسسة الدينية وفق متطلباتها أو وفق رؤيتها الخاصة للإسلام مادامت المؤسسة الفقهية تابعة مباشرة أو مواربة للسلطان.

الحل الذي لا يقبل الإسلاميون بمجرد مناقشته هو تخليص المؤسسة الدينية نهائياً من هيمنة السلطة، فاستقلالية المؤسسة الدينية تعني تلقائياً استقلالية المستوى السياسي عن الدين، أي حيادية المؤسسات العامة إزاء الدين، وهم يطمحون إلى إقامة حكم إسلامي تنقلب فيه الأدوار ليهيمن الديني. التجارب الإسلامية المعاصرة لا تدعم هذه اليوتوبيا الدينية، هناك إيران كمثال على هيمنة السياسي ومصالحه في ولاية الفقيه، وتجربة طالبان الأولى مثال على فشل الإسلام السني حاكماً، ولم تقدّم طالبان في نسختها الثانية مؤشراً جوهرياً على الاستفادة من الدرس. ببساطة، لن يستفيد أحد من الدرس ليأتي بتطبيق أفضل للنظرية، فالعلة ليست أصلاً في التطبيق.

كان الخليفة عبدالملك بن مروان أول من أعلن الأمر عندما أتته الخلافة والقرآن في حجره، فرفعه قائلاً: هذا فراق بيننا. ويُروى أن عبدالملك كان متفقهاً، بل راوياً للحديث، وتُحسب له من بين فضائله صراحته تلك في استحالة الجمع بين السياسي والديني. أما “إسلاميونا” اليوم فغير مستعدين لهذا الفصل وتكييفه مع المجتمع المعاصر، وكذلك هو حال الحكام، لأن الفصل ينتزع الدين من مستثمريه على الجانبين. ليست المشكلة في “سلطان” جائر أو “رافضي”، فالإسلامي لا يقبل بفصل الدين عن السلطة، أو بالأحرى تحريره منها، ولو كان الثمن أن يستحوذ بشار الأسد على منصب المفتي العام الأول.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا