التهجير، لا الهجرة ولا النزوح، هو أصل الحكاية السورية وفصلها الاخير، الذي يراد منه أن يسدل الستارة على ثورة العام 2011، ويعلن أن خاتمة تلك الحكاية، ستكون بصك غفران يكتبه كل من الرئيسين بشار الاسد وفلاديمير بوتين، ومعهما المرشد الايراني علي خامنئي، ويقدم كصدقة، او مكرمة الى المهجرين السوريين.
لم يبق من تبعات تلك الثورة سوى وجود أكثر من نصف الشعب السوري خارج مقرات إقامتهم الاصلية، بغض النظر عما إذا كان التهجير مفتعلاً من قبل الأميركيين والاتراك (واللبنانيين والاردنيين..)، حسب الرواية الرسمية السورية.. أو ما إذا كان ناجماً عن الارهاب الدولي الذي جرت تصفيته في سوريا أخيراً، حسب الخلاصة الرسمية الروسية.
حان موعد العودة، الذي يفترض ان يطوي بشكل نهائي بقية مطالب الثورة ومعالمها، التي لم يبق منها في الاصل سوى تعديل دستوري مجازي، وإنتقال سياسي متخيل. وكلاهما لا يجوز أن يؤجل العمل على حل تلك المعضلة الانسانية والاخلاقية، المتمثلة في التهجير، وأسبابه التي لم يعد هناك مجال للبحث بها، ولا لتبادل الاتهامات والمسؤوليات، بل فقط للنظر في بعض التفاصيل البسيطة..
المؤتمر الذي إنعقد في دمشق لهذا الغرض، هو في المقام الأول إعلان إضافي للنصر على الثورة، وإشهار عملي لأهم عناوين التفاوض حول تصفية تركتها، بإعادة المهجرين الى منازلهم، بعد التوقيع على وثيقة الاستسلام للنظام وللروس والايرانيين وأجهزتهم ومليشياتهم. المفاوضات المقصودة لن تكون مع الراغبين بالعودة، ولا مع هيئات المعارضة التي تلوذ بهم وتعتبرهم ورقتها الاخيرة وعنصر قوتها الوحيد ربما، بل مع الدول التي تستضيفهم والمنظمات التي تغيثهم.
بصراحة متناهية، يقول النظام والروس والايرانيون، أنهم يريدون البحث بإعادة المهجرين، على قاعدة أن يظل هؤلاء العائدون يتلقون المساعدات المالية والعينية، التي يتسلمونها حاليا من الدول والمنظمات المضيفة. أي تحويل هذه الاموال الى الداخل السوري ، السلطة تحديداً، التي يفترض أن تتولى عمليات الايواء والتوزيع والتعمير.. وإلا فإن تلك البيئات الخارجية (الفرنسية والالمانية خاصة) ستتحول مع الايام الى مختبر أساسي لظاهرة الارهاب الدولي يوفر المزيد من الذئاب المستوحدة او حتى الخلايا المستذئبة، التي تنشر الرعب في شوارع المدن الاوروبية.
هي إذاً خدمة يعرضها بوتين على الاوروبيين الذين شهدوا في الاسابيع القليلة الماضية نماذج مروعة من تلك الظاهرة، في باريس ونيس وفيينا..وكان أحدهم ذو منشأ روسي. ولا حاجة للنقاش هنا في مبرر إستبعاد تركيا من تلك العملية التفاوضية المقترحة، برغم ان المهجرين السوريين الى الاراضي التركية يمثلون ثلاثة أضعاف المقيمين منهم في دول الاتحاد الاوروبي كله(ثلاثة ملايين ونصف مليون مهجر الى تركيا، مقابل مليون مهجر الى اوروبا). للتفاوض الروسي مع أنقرة مسارات أخرى، وشروط مغايرة، وآفاق مختلفة.
رفضت أوروبا عرض التفاوض، الذي لم تكترث له تركيا طبعا. لكنهما على الارجح ستكونا مستعدتين للبحث به مستقبلا، إذا ما تواصلت الحملة الروسية المتعددة الاشكال، وإذا ثبت أنه ليس هناك بديل يتحمل ذلك العبء البشري والانساني، أو على الاقل يتولى مسؤولية تحويل تلك القضية الى مسألة مبدئية، تشبه حق العودة الفلسطيني، ولا تخضع لإي مساومة أو أي تفاوض، ولا تبدو كأنها مكرمة من أحد، بل هي حق من حقوق الانسان السوري، لا يرتبط بموافقات أمنية أو سياسية، ينتظرها الكثيرون من الراغبين بالعودة ولا ينالونها.. لاسيما المقيمين منهم في لبنان تحديداً.
أعلن المؤتمر أن المهجرين ورقة قوة النظام وروسيا وايران، وورقة ضعف الاخرين جميعا. وهو ما لم يكن بحاجة الى دليل. لكن المفارقة هي أن المنفيين والمشتتين السوريين تعاملوا مع المؤتمر بإعتباره فاتحة أبواب العودة، وشرعوا في وضع شروطهم ومطالبهم المسبقة، أو حتى في نفي رغباتهم بالعودة الى حضن الوطن المدمر من الجنات التركية أو الاوروبية أو الاميركية التي يعيشون فيها..مع أن النظام ترجم الموقف الروسي بدقة عندما قال صراحة أن العودة مرهونة بفك الحصار الاميركي الصهيوني الرجعي على سوريا وبتوفير مقومات الحياة والبقاء للعائدين، بشكل مسبق.
المساومة بدأت، على أساس أن النظام لا يريد ولا يقبل ولا يحتمل عودة أحد من المهجرين، سوى المقتدرين، أو العائدين بأموال التعمير وبأوراق التسليم..والذين لا يشكلون عبئا أمنياً أو سياسياً. سلوكه مع القلة التي غامرت بالعودة في السنوات القليلة الماضية لا يقبل الشك.أما روسيا وإيران، فإن إكتشافهما المتأخر لهذا العدد الهائل من المهجرين السوريين، المقيمين خارج تركيا، فهو مجال رحب للإستثمار السياسي والمالي والامني المربح، بلا حدود.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت