يحتفل اليهود بشكل رسمي هذا العام بمرور ألف وسبعمئة عام على وجودهم في ألمانيا، ولا يخفى على أحدٍ إشكال الوجود اليهودي في المجتمعات التي عاشوا فيها عامّة وفي المجتمعات الغربية خاصّة، وكذلك حجم التفاوت في التعامل معهم والنظرة إليهم، وبعض المجازر التي وقعت بهم وآخرها الهولوكوست النازي، واستثمار كلّ ذلك على مرّ العقود الماضية والذي كان من أكبر نتائجه الدعم اللامحدود لإنشاء دولة إسرائيل على حساب الشعب العربي في فلسطين.
لم تكن محنة الهولوكوست سهلة أبداً، ورغم جدال البعض بوقوعها مثل الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد، ورغم تضخيم آثارها لدرجة بات من الممنوع قانوناً في معظم دول أوروبا طرح مسألة أسبابها أو عدد ضحاياها على بساط البحث للوصول إلى حقائق بعيدة عن الفوبيا أو التهويل أو حتى الإنكار المجحف، ورغم الآثار الهائلة المترتبة على هذا التعامل الأوروبي مع القضية اليهودية على حقوق الشعب الفلسطيني، إلّا أنّ ذلك كلّه لا يشرعن ما ارتكبته النازية بحق بشرٍ مقيمين منذ مئات السنين في هذه البقعة الجغرافية من العالم.
ما يدفع إلى استحضار مثال المحرقة النازية التي حصلت بشكل متدرّج على مدى اثنيّ عشر عاماً من تاريخ تعيين هتلر مستشاراً لألمانيا عام 1932 وحتى هزيمتها أمام الحلفاء عام 1945، هو المقارنة مع المحرقة السورية المستمرة منذ عشرة أعوام، والمرشّحة للمُضيّ قُدماً في ضوء التعقيدات الكبيرة في الملف السوري بين مختلف الأطراف المتصارعة. نجح أدولف هتلر في تسلّم منصب المستشار الألماني بعد فوز حزبه في انتخابات برلمانية حرّة، لكنّه حوّل هذه الدولة العظيمة إلى مصنع جبّار لبناء آلة الحرب، واستغلّ الشروط المذلّة المفروضة على ألمانيا إثر هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، ليقوّي الرابطة القومية عند الألمان ولينتقم لكرامتهم الجريحة. لكنّه جلب الدمار على بلده وعلى أوروبا نتيجة تعصّبه ونازيته العمياء.
بالنقيض منه، ورث بشار الأسد الجمهورية العربية السورية من أبيه عام 2000 من دون أي استحقاق أو شرعية، وحوّلها مع مرور الأيام إلى مزرعة للنهب والفساد المستشري، بعد أن كان والده قد ضبط هذا الأمر ضمن حدود معيّنة تمنع الانفجار الهائل الذي حصل عام 2011. وللمفارقة العجيبة، كان أول من خاطبهم هتلر سوريا هم حكّام إسرائيل على لسان ابن خاله رامي مخلوف، عندما قال بالحرف الواحد في الأيام الأولى للثورة، إنّ أمن إسرائيل من أمن سوريا. بينما اعتبر هتلر أنّ اليهود – وهم بالمناسبة مواطنون ألمان – مسؤولون عن الحال المتردية التي وصلت إليها ألمانيا آنذاك من خلال مضارباتهم المالية واحتكاراتهم وغيرها من التهم التي ألصقها بهم – بحق وبغير حق – ليبرر إبادتهم.
عاش العالم، وما زال يعيش على وقع تلك المحرقة، واستغلّت الحركة الصهيونية العالمية ذلك أفضل استغلال من خلال الدعم اللامحدود لبناء دولةٍ يهودية على أرض فلسطين. وما زال العالم يعيش منذ عشرة أعوام على وقع المأساة السورية التي صنفتها الأمم المتحدة كأعظم كارثة إنسانية بعد الحرب العالمية الثانية. وهذه بعض الأرقام الصادرة عن مجموعة “منسقو استجابة سوريا” في إحاطتها بالأرقام عن العقد الأخير في سوريا.
(عدد النازحين السوريين داخلياً 6.9 ملايين نازح، عدد اللاجئين السوريين في بلدان اللجوء 6.5 ملايين لاجئ، عدد الأطفال المتسربين من التعليم 2.5 مليون طفل، عدد النازحين السوريين القاطنين في المخيمات ومراكز الإيواء 1.9 مليون نازح، خسائر الاقتصاد السوري تجاوزت عتبة 500 مليار دولار أميركي، أسعار المواد الأساسية تضاعفت أكثر من 120 مرة حتى نهاية عام 2020، تضاعف سعر العملة المحلية أكثر من 91 مرة منذ بداية 2011، أكثر من 41% من المدارس مدمرة، أكثر من 75% من المشافي والمستوصفات مدمرة أو خارجة عن الخدمة، نسبة السوريين تحت خط الفقر :84.3% ، عدد السوريين الذين وصلوا مرحلة المجاعة 3.1 ملايين نسمة، نسبة البنى التحتية والمشاريع الحيوية المدمرة 67% ، المصابون من العمليات العسكرية أكثر من 1.8 مليون مدني، أصبح منهم أكثر من 230 ألف من أصحاب الاحتياجات الخاصة، عشرات الآلاف من المدنيين المفقودين والمغيبين قسراً، عشرات الآلاف من المدنيين فقدوا حياتهم نتيجة الهجمات من قبل النظام السوري وحليفيه إيران وروسيا).
كان من بين نتائج الهولوكوست النازي بحق اليهود، المساهمة الفعالة في بناء دولة إسرائيل الحالية، والتي باتت تنافس عالمياً ببعض الصناعات، بل وتتصدر قائمة الدول المصنّعة لبعض المنتجات خاصّة في مجال التكنولوجيا. وبات جيشها من أقوى جيوش المنطقة، على الرغم من الحجم المتواضع للأرض التي تحتلها والعنصر البشري الذي تتشكل منه والموارد المحدودة التي تتمتع بها. بينما بالمقابل نرى بعض نتائج الهولوكوست السوري أمامنا ماثلة دون أن نتمكّن حتى من إحصائها، فالأرقام لا تكفي للدلالة على هول المأساة وحجمها. فهل نتحدّث عن الانقسام المجتمعي القومي الديني الطائفي المناطقي، أم نتحدّث عن تدمير البنى التحتية وانهيار الاقتصاد بشكل شبه نهائي، أم نتحدّث عن التغيير الديمغرافي والتهجير القسري وتدمير التاريخ والحضارة السوريين، أم نتحدّث عن الجيوش التي تحتل أجزاء كبيرة من سوريا، أم عن التنظيمات الإرهابية والانفصالية التي أنشأت مناطق حكمها ونفوذها؟
الحقيقة أنّ ما يخبّئه المستقبل لسوريا وأهلها، أكثر قتامة ومأساوية مما هو ظاهر الآن بعشرات بل بمئات المرّات، وما نراه الآن ليس سوى جزء يسير من جبل الجليد. تعيش سوريا أحلك أيامها الآن، ولن يتوقف هذا التراجع والانهيار ما لم يأخذ أهلها بأيديهم زمام الأمور. الجميع مسؤول عمّا وصلنا إليه من خراب، كلّنا ضحايا الاستبداد، ومن وقف ضدّ ثورة الكرامة والحرية ليحافظ على مكتسباته التي ظنّها دائمة، يدفع الآن الثمن باهظاً. كلّ من اصطفّ مع الجلاد يجد نفسه الآن تحت لسع سياطه، وكلّ من استغلّ الثورة ليتكسّب منها يجد الآن نفسه مهاناً من الناس ذميماً ومحتقراً، وكل من وقف على الحياد، أو هكذا ظنّ، يجد الآن نفسه بين مطرقة الجوع وسندان الذل.
آن الأوان لأن يصحا السوريون من سكرتهم، آن الأوان لأن ننفض عنّا غبار التواكل والعجز والخنوع، ولا يكون ذلك إلا بتضافر جهود بنات وأبناء الوطن المخلصين، من المقيمين في شتى أصقاع الأرض بالتعاون مع القابضين على جمر الوطنية في داخله. يجب أن يفرض هؤلاء إرادتهم على جميع الدول، وعليهم أن ينطلقوا من المصلحة الوطنية السورية. يبدأ هذا كلّه بالتحضير لبناء المؤتمر الوطني السوري الجامع، ويتحمّل السوريون الأميركيون العبء الأكبر من هذه المسؤولية، لأنهم ببساطة أقدر جالية خارج سوريا على التأثير في مركز صنع القرار الأول في العالم، إنهم قاطرة التغيير السورية. من واشنطن يجب أن ينطلق قطار تجميع جهود السوريات والسوريين لصناعة التغيير، وإلى دمشق يجب أن يصل، إنّه زمن وقف الهولوكوست، وإن لم نبدأ الآن، سيستمر معنا وسيبقى في ذاكرتنا إلى الأبد.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت