لن يُنشر كتاب مارات جابيدولين المقاتل ضمن مرتزقة فاغنر في سوريا، فبعد الإعلان عن إرسال الكتاب إلى المطبعة أتى الإعلان سريعاً عن سحبه منها. لن تنشر مذكرات هذا الشخص، إلا إذا أتيح تهريبها خارج الحدود إلى جهة مهتمة بنشرها، وقد يأتي الاهتمام بسبب مصير صاحبها الذي لا تُستبعد تصفيته في أية لحظة لقيامه بالكشف عن أسرار تلك المؤسسة الرديفة للمؤسسة العسكرية الروسية، لصاحبها يفغيني بريغوجين المعروف أيضاً بلقب طباخ بوتين. بريغوجين خاضع، على سبيل المثال، للعقوبات الأوروبية جراء دوره في تسميم المعارض الروسي أليكسي نافالني، واسمه مدرج أيضاً في لائحة العقوبات الأوروبية الخاصة بليبيا بسبب نشاط شركته فاغنر هناك.
مَن هو متهم من قبل جهة دولية وازنة ذات مصداقية “الاتحاد الأوروبي” بالمشاركة في عملية تسميم معارض، لن يكون سعيداً بخروج أحد موظفيه ليكشف عن خفايا مطبخه. صحيح أن كتاب مارات قد سُحب من الطباعة، إلا أن صحيفة ميدوزا الروسية أجرت معه حواراً يكشف قمة جبل الجليد، ويعِد بحوار مقبل قد يكشف عن حيثيات منعه من نشر الكتاب. وفيما لو أسعفه الوقت وحرية التحدث، من المرجح أن نحظى بتفاصيل إضافية تضيء على عمل المرتزقة الروس في سوريا، فضلاً عن كواليس التعاون بينهم وبين القوات الروسية النظامية فيها.
لا ينطلق مارات جابيدولين في حواره حول تجربته من إحساس بالذنب تجاه فكرة العمل كمقاتل مرتزق، تركيزه منصب على فساد شركة فاغنر التي عمل فيها، وتالياً الفساد الذي يقف خلف الشركة بأكملها ليصل إلى أعلى مستويات الحكم الروسي. أقل ما يجب أن يثيره الحوار مع مارات، ومنع كتابه، اتخاذه دليلاً على حضور المرتزقة الروس في سوريا وليبيا، لأن الأهمية تكمن في عمل الماكينة نفسها التي نحتاج إلى أكثر من كتاب يفضحها، وربما يشجع على فضح أمثالها.
مثلاً في واحد من أجوبته، يتحدث مارات عن أسوأ ما حدث لجيشه، عندما قصفت المروحيات الأمريكية رتلاً لفاغنر ليلة الثامن من شباط2018. قُتل في القصف مئتا مرتزق، وأعلنت موسكو عن عدم وجود جنود روس في الموقع، والإعلان الذي تلى القصف مطابق لما سبقه، إذ بموجب التنسيق بين الطرفين الروسي والأمريكي لم تخبر موسكو واشنطن بوجود قوات لها هناك وتركت مرتزقتها تحت القتل من دون وسائل دفاع ضد المروحيات. كما نذكر أتى القصف الأمريكي آنذاك كتحذير دموي لإبعاد مرتزقة فاغنر عن آبار النفط في محيط دير الزور، وبعد إنكار لأيام اعترفت فقط موسكو بمقتل خمسة مواطنين “لا ينتمون إلى الجيش الروسي”.
مارات مقاتل سابق في سلاح الطيران، التحق بفاغنر في نيسان 2015، وقيل له أن يضع الموت في حسبانه وهو متجه إلى الحرب حيث توجد مصالح لدولته. لكن فكرة شركة فاغنر كجيش من المرتزقة لم تكن واضحة جيداً في ذهنه آنذاك، وأول مؤشر يصادفه دخول كتيبته سوريا بلا أختام أو تأشيرات على جوازات السفر، ما يعني عدم الاعتراف بوجودهم وتالياً عدم الاعتراف أو الاكتراث بمصيرهم. المهمة التي توضع أمام المرتزقة هي السيطرة على آبار النفط السورية، وهنا يكشف مارات بوضوح عن فشل ذريع للمخطط الروسي الذي لحظ مبكراً أهمية الاستيلاء على تلك الآبار، لكنه كان مكشوفاً للقوات الأمريكية التي حالت دون تنفيذه، وتعمّدت إيقاع ذلك العدد الضخم من ضحايا فاغنر للدلالة على مدى جديتها. على صعيد متصل، تكشف أقوال مارات عن شهور من الاستعدادات الروسية للتدخل العسكري الروسي، بما في ذلك إعداد المرتزقة وإرسالهم، ما يؤكد فرضية معرفة الاستخبارات الأمريكية مبكراً بنوايا التدخل، وعدم اعتراض إدارة أوباما عليه ضمن حدود تضمن إنقاذ الأسد ولا تنجح فيها موسكو بالسيطرة على مناطق مجزية اقتصادياً.
يتحدث مارات عن تواضع القدرات التسليحية لفاغنر، محيلاً ذلك إلى فساد قيادات تشتري الأسلحة الرخيصة، لا إلى الصورة الشائعة عن تواضع الأسلحة الروسية مقارنة بنظيرتها الغربية. الفساد، وفق مفهومه هذا، يعني التضحية بمزيد من المرتزقة على المثال الوارد سابقاً لتركهم تحت القصف. إلا أن صاحب الحوار يقودنا إلى مثال أفظع، فعناصر فاغنر “الذين يُفترض أنهم ضحايا الفساد” سيقومون بقطع رؤوس سوريين هاربين من الخدمة في قوات الأسد، أو بقتلهم باستخدام المطارق الثقيلة على مختلف أنحاء أجسادهم.
تلك القوات ضعيفة التسليح وعديمة الحيلة، التي يشير إليها كقطيع، ستُنسب إليها الانتصارات التي يحققها مرتزقة فاغنر لأسباب تتعلق بالبروباغندا الروسية. من ذلك ما يكشفه عن الإتيان بتلك القوات إلى مسرح المعركة بعد انتهائها لتصوير قوات الأسد في موقع المنتصر، ويبدو من حديثه أن النصيب الأكبر لم يكن لقوات الأسد وإنما لقوات النمر “سهيل الحسن” الذي راجت صورته تلك الأوقات بوصفه القائد المفضّل لدى الكرملين. تهرّبُ أولئك العناصر من الخدمة قد يُعزى إلى انعدام حافز القتال، ولو كان حافزاً مالياً على الأقل، مثلما قد يُعزى إلى تواضع تسليحهم حتى بالقياس حتى إلى شكوى الضعف التسليحي ممن ينهالون عليهم بالمطارق. إلا أن مارات لا تنقصه الرأفة، فهو يستذكر إرسال المرتزقة السوريين إلى ليبيا للقتال تحت إشراف فاغنر، وكيف اتصل به على وجه السرعة زميله الرائد من هناك متسائلاً: اسمع، هؤلاء الذين أرسلتهم، هل يمكن استخدامهم كمفجِّرين انتحاريين؟
قصص كثيرة جداً يُتوقع أن يكون لدى مارات تفاصيل ومعلومات موثقة عنها، مثل تهريب الآثار وتفاصيل الكر والفر في الحرب مع داعش، رغم أن تركيزه منصب على ما يراه فساداً داخلياً، من قبيل سرقة قادة فاغنر المكافآت المخصصة للعناصر أو لشراء الأسلحة. وهو يظهر كأنما واقع في حيرة، إذ ينزّه صاحب الشركة عما فيها من فساد، فيقول عن “طباخ بوتين”: دعه يدوس عليّ، الشيء الرئيسي بالنسبة لي أن يعود إلى رشده وأن يدفعه الكتاب “الذي مُنع” إلى الإصلاح. لكنه من جهة أخرى يتحدث عن فساد معمم لا يمكن حصوله بعيداً عن معرفة طباخ بوتين وبوتين نفسه، وعن أهوال حدثت في سوريا كان يُفترض بالكتاب أن يفضحها، ومن المتوقع أن يكون تضافر الفساد مع الوحشية قد خلّف الكثير من الفظائع التي بقيت بعيدة عن الإعلام.
نعم، قد يدوس طباخ بوتين على مقاتله السابق، ليجعل منه أمثولة لكل من يفكّر بالتحدث عمّا جرى ويجري. إسكات مارات الذي لن يكون غريباً على المافيا الروسية خسارة لجميع ضحايا فاغنر السابقين والمقبلين، في سوريا وفي ليبيا ودول أفريقية أخرى. الخسارة الأخرى أن شهادته، لو لم يمنع كتابه من النشر، هي أول شهادة من نوعها على المقتلة السورية لمشارك فيها. ربما لو أتيحت لصاحبها حرية التحدث لكان قد شجّع مقاتلين سابقين، من أطراف عديدة، على الإدلاء بشهاداتهم، ففي عالم الصفقات والمعارك القذرة التي خيضت في أكثر من مكان على امتداد الحرب في سوريا هناك الكثير مما يُروى، والكثير من الشجاعة المطلوبة لمواجهة التواطؤ الجماعي على الصمت
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت