لنتخيّلْ وفق السيناريو الأفغاني بشار الأسد مكان أشرف غني الذي قيل أنه استقل طائرة إلى طاجيكستان قبل ساعات من دخول مقاتلي طالبان إليها. ليكون بشار الأسد في موقع أشرف غني ينبغي أن تعلن موسكو سحب قواتها وإغلاق قواعدها في سوريا، بالتنسيق مع طهران التي تعلن أيضاً سحب قواتها وميليشياتها. وربما، ضمن التنسيق الروسي-الإسرائيلي، يُترك لوزير إسرائيلي إعلان النهاية، كأن يصرح للإذاعة بأنه يرى حكم الأسد منتهياً خلال ثلاثة شهور.
إثر تصريح الوزير الإسرائيلي ستتسارع الأحداث على نحو لم يكن متوقعاً من قبل، فتشهد أجهزة المخابرات وقطعات الجيش عمليات فرار لعناصرها وضباطها، وضمن حالة من الفوضى تُفتح أبواب الزنازين أمام المعتقلين وتُحرق سجلات شديدة الأهمية. من كل أماكن سيطرة الأسد ستشهد الطرق الذاهبة إلى الساحل ازدحاماً غير مسبوق، فأنصاره والذين عملوا معه سيسعون إلى البحر على أمل العثور على قارب نجاة لهم. لا مطارات في بلد محطم أصلاً، كي تقلّ الطائرات أولئك الهاربين من ماضيهم، وليس ضمن اهتمامات موسكو أو طهران إنقاذ عشرات الألوف من المتعاملين معهم، وحتى طائرة بشار قد يُعثر لها على وجهة خارج هاتين العاصمتين.
ليس هناك طالبان في سوريا، فلا النصرة ولا شقيقاتها في موضع المقارنة، لذا من المرجح أن تشهد البلاد حالة من الفوضى. لكن سيناريو الفوضى لن يثير رعب “المجتمع الدولي” كما كان يحدث من قبل، بل يمكن الاستدلال مثلاً بالصومال التي تُركت سابقاً في حال من الفوضى والاقتتال، ولم تتسبب فوضاها بأي أذى للسلم الدولي. بل يمكن إعادة الاستدلال بالفوضى التي أعقبت سقوط صدام حسين والتي طالما جرى التخويف من حدوثها في سوريا، للقول أن التدخل الأمريكي فيها كان خاطئاً وكان من الأفضل تركها للعراقيين أنفسهم، لأن خسائرها لن تفوق خسائر التدخل.
قبل أن يواجهنا واحد من شديدي النباهة بأن هذه أوهام يستحيل تحققها؛ بالطبع لن يحدث ذلك لأن موسكو وطهران لن تنسحبا طوعاً من أي مكان. بل أتتهما الفرصة الذهبية مع الانسحاب الأمريكي لتقول كل منهما أنها لا تتخلى عن حلفائها على نحو ما تفعل واشنطن. وإذا كانت واشنطن، عبر ثلاث إدارات متعاقبة من الديموقراطيين والجمهوريين، قد أعلنت سياسة واضحة في ما يخص الانسحاب العسكري، والإقلاع تالياً عن فكرة التدخل العسكري، فإن موسكو وطهران في طليعة القوى التي تؤمن بالتدخل العسكري لمدّ نفوذهما، وتريان فرصة سانحة في الانسحاب الأمريكي، حتى لو أودت تدخلاتهما باقتصاديهما المنهكين أصلاً.
نظرياً، يقدّم الأفغاني أشرف غني “الذي أصبح رئيساً سابقاً” درساً عن السقوط لكل القيادات التي تحكم بلدانها بإرادة خارجية لا بإرادة السكان، إذا تجنبنا استخدام كلمة شعوب لما قد تحمله من شبهة التماسك الاجتماعي. لكن، وعلى نفس درجة عدم تحقق السيناريو الأفغاني في سوريا، لن يكون هناك درس مستفاد من سقوط أشرف غني، بل على العكس سيلتجئ حكام مثل بشار وغيره أكثر من قبل إلى الحماة الخارجيين تجنباً لسقوط محتوم فيما لو تُرك بلا دعم منهم. الأمر لا يتعلق فقط ببشار الذي ارتكب من الجرائم ما يحرق كل مراكبه خلفه، بل هكذا هو الحال بالنسبة لطغاة على شاكلته، ومثله هو الذي كان يرى نفسه استثناء مع بدء ثورات الربيع العربي.
ولا نخطئ إذا رأينا بشار الأسد في أفغانستان، إنما واضعاً نفسه في الجانب الآخر، جانب طالبان، بمعنى أنه ينتصر بانتصارها. أيضاً، نظرياً يقوّض قبول “المجتمع الدولي” بطالبان مفاضلة الأسد الأثيرة بينه وبين التطرف الإسلامي، فها هو التطرف الإسلامي السني يحظى بالاعتراف، كما حظي به قبل أربعة عقود نظيره الشيعي. إلا أن فسحة من الأمل تنكشف أمامه، بما أن العالم الذي شيطنَ طالباً تراجع عن شيطنته لها، لذا قد تكون عملية إعادة تدويره أسهل من قبله. هو، في المدى المنظور، احتمال أرجح من تصور حكم الإسلاميين في الشرق الأوسط الكبير.
في معرض تبرير الانسحاب، قالها أكثر من مسؤول أمريكي مواربة أو مباشرة أن بلاده لن تضحي من أجل حقوق الإنسان في مكان آخر، مع الإيحاء بأن تلك الأمكنة ميؤوس منها والعلة فيها، لا في السياسات الأمريكية القادرة على الانتصار عسكرياً ثم تبديد النصر بإدارة مدنية فاشلة. صدور هذه التصريحات عن إدارة ديموقراطية يكسبها صدقية واستدامة، لأن المسائل المتعلقة بحقوق الإنسان عالمياً كانت دائماً تحضر إلى الواجهة مع حكم الديموقراطيين، لذا يبدو كأن هناك استراتيجية أمريكية لن تتغير مع تبدل الحزب الحاكم، مفادها التخلي علناً عن أي ملمح “أخلاقي” في السياسة ولو كان استخدامه براغماتياً، وترك المناطق المتصحرة استراتيجياً لبؤس أحوالها أو للطامعين في التورط فيها.
في واحد من معاني الانسحاب، تصوّر الإدارة الأمريكية انسحاب مقاتليها من أفغانستان والعراق كأنه مغادرة لكوكب الأرض كما كان منذ خروج المارد الأمريكي إلى العالم مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وهدف المغادرة التفرغ لتقوية أمريكا ومواجهة الصعود الصيني، وهي مواجهة لا تنتمي إلى ماضي الحروب الباردة والساخنة. هذا من شأنه أن يقطع الطريق على مطالبات معهودة، يناشد أصحابها واشنطن التدخل هنا أو هناك، بما تملكه من قدرات هي الأقوى وأحياناً بما تتكفل به هيبتها فحسب.
إن مجرد التأكد من أن أمريكا لن تصل إلى التدخل العسكري، ما لم يُمس أمنها القومي مباشرة، سيكون مصدر ابتهاج لأولئك الذين يحكمون بالقوة، وللذين يسعون إلى مد نفوذهم بالقوة. البعض منهم سارع إلى إعلان هزيمة أمريكا ونهاية عصرها، ومصادر موجات الابتهاج “من الصين إلى روسيا إلى إيران.. ووكلائها المحليين” تشي بنوايا أصحابها الذين سيثبتون سريعاً أن غياب أمريكا ليس أرحم من حضورها. في المقدمة من الشماتة يُشبّه الانسحاب الأمريكي بالانسحاب المذل من فيتنام، ولعل الأقرب إلى الواقع تشبيهه بهروب شاه إيران واحتجاز الرهائن الأمريكيين أنذاك، وما ألمّ بعموم المنطقة بعد انتصار الملالي. المقاربة الأخيرة تتوقف عند وجه الشبه بين بايدن وجيمي كارتر، فلا تضمر توقعاً بعودة أمريكية قريبة مع ريغان جديد.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت