عزز الاستبداد السياسي، هيمنة الأنظمة الشمولية، وقد استخدمت الأخيرة أدوات متنوعة خلال محاولة بسط نفوذها على مقدرات الحكم، ولم يكن ذلك محصوراً في جدلٍ حديث نشأ بعد الثورة السورية، وإنما بذوره تعود لقرون طويلة يمكن تتبع تاريخه إلى ما قبل الميلاد خلال ثورة الرق “العبيد” التي تجسدت في سبارتكوس خلال محاولاته الانتفاضة ضد الإمبراطورية الرومانية.
دائماً، ما كان هناك محاولات فكرية تدور حول الفرد ذاته لمحاولة فهم الأسباب التي قد تدفعه لدعم نظامٍ شمولي أو مستبد، وفي الغالب ما ارتبطت تلك المبررات بشكل أساسي بالخوف أو الدوافع بالمنفعة الذاتية التي تدور حركيتها مركزياً بالجانب الاقتصادي، مقابل الولاء أو الطاعة التي يقدمها.
ومن هنا، يمكن القول إنّ التشكلات الأساسية للفرد المستبد تنحصر ببعدين اجتماعي أي المكانة والحصانة، والاقتصادي من حيث جني الأموال. وفي نموذج النظام السوري، يؤدّي العاملان أدوارً مهمة في بناء حاضنة الأسد الشعبية. لكن السؤال الأهم ماذا لو فقد أي نظام مستبد القدرة على توفير تلك الامتيازات هل بالفعل قد تتخلى عنه تلك الشريحة أم تبقى داعمة له، ويمكن ضمن تلك الفرضيات التأكد عبر قياس نموذج الأسد بعد الانهيار الاقتصادي وتكلس مؤسسات الدولة مدى تقلص شعبيته من عدمها هل بالفعل ما زال هناك من يؤيد الأسد؟
إعادة فهم نفسية المؤيدين:
لدى اندلاع الثورة السورية، ظهرت شريحة كبيرة من المؤيدين للنظام من السوريين أنفسهم، وقد كرس الأسد كل قدراته في سبيل تعزيز تلك الشريحة ضمن بنيته الاجتماعية على مدار العقود الماضية من خلال السياسات التي اتبعها الأسد الأب عبر خندقة كل النقابات أو الكيانات المدنية والمؤسسات الدينية ضمن عصبة واحدة تابعة له بشكل مركزي، وقد استطاع أن يُخرج منها جيلاً مطيعاً وموالياً له، سيما في ظل تبنيه لفلسفة “التعبئة الفكرية” التي في الأصل قامت على فكرة “التجميع البشري” أي توفير مساحات مضبوطة بنيوياً وأمنياً لإدارة الوعي الجمعي ومن الأمثلة البارزة الاتحادات الطلابية والعمالية.
بينما كان لمساحات الجيش والأمن والسياسة تعاملاً أكثر خصوصية وحساسية في بناء المشهد في دولة الأسد، وعلى هذا الأساس نجح في تكريس منظومة شمولية محكمة ذات علاقة شبكية قادرة على إجهاض أي حركة قد تسهم في توفير هامش لحركة جديدة في سورية. مع ذلك، نبّهت محاولة بشار الأسد لفهم خصومه خلال ربيع دمشق لضرورة وجود معارضة سورية، وعدم صدق نوايا التغيير، التي كانت ربما فرصة النظام السوري الأخيرة لتغير الفلسفة والعقلية القائمة، وهذا ما قد يدفع ولو قليلاً للتخمين عن الأسباب التي ساهمت باندلاع الثورة السورية، وتحقيق خرقٍ بقدرٍ معين في نفسية مجموعة من أفراد المجتمع الذي لم يستطع الأسد في فترة ما بعد اختبار ربيع دمشق تضمينهم ضمن إحدى تشكيلاته واحدة المضمون على اختلاف قطاعاتها ومساقاتها.
فيما بقيت الفئة المناصرة له والتي عوّل عليها قبل الثورة، في تحديات مثل الانتفاضة عند حسن ظنه؛ وغالباً لم يكن يتوقعها رغم نفيه الحدث أثناء سؤاله عن توقعه باندلاع ثورة في سورية؛ النفي الذي يعتبر جزءًا من عملية مناورة أو تمرير رهان ليس مع شعوب الربيع العربي أو دول لديها علاقات غير متوازنة مع الأسد كالولايات المتحدة الأمريكية، وإنما كان رهاناً مع الشعب السوري نفسه أو تحذيراً له بخطورة الإقدام على تلك الخطوة.
الذي لم يكن مفاجئاً كثيراً، لمتتبع في الملف السوري، بناءً على معيطات تدجين المجتمع والاستحكام بالسلطة أو التفرد بها؛ دعم شريحة عريضة الأسد خلال حربه التي أعلنها على الشعب السوري، بدواعٍ مختلفة لكن حتماً كانت طبيعة الهوية التي صدّرها الأسد عبر أجيال عاصرته ككتلة نظام دوراً أساسياً في التخلي عن الناس المطالبة بمبادئ إنسانية مثل: الحرية والكرامة والعدالة، والاصطفاف مع النظام.
لم تخلو تلك الهوية من الامتيازات التي دعمها الأسد، بإغراءات اقتصادية مثل رواتب خاصة دُفعت للميلشيات المحلية التي ساندته، أو التصنيف الطبقي من خلال إثارة البعد الطبقي في الصراع فأصبح لأي رتبة تقاتل مع النظام ضد المعارضة استثناءً خاص؛ بالتالي قدرة على التحرك بليونة أكبر ضمن المؤسسات الموجودة في الدولة. مما جعل قتال المعارضة امتيازاً جذاباً للفرد السوري. وبلا شك الامتياز الطائفي كان حاضراً وبقوّة في الصراع الهوياتي في هوية المواطنة المشوّهة، لكنه كان ضمن الأبعاد المختلفة التي عمل عليها الأسد فلكل مستوى وشريحة مآلات وطبائع وأدوات مختلفة للقياس والتعامل.
الثورة في حصاد مؤيدي الأسد:
في المرحلة الراهنة، فقد مؤيدو الأسد حضورهم وزخمهم، وبل راحت الامتيازات التي كسبوها خلال الأعوام الأولى من الثورة هباءً منثوراً في معركة الامتيازات، سيما بعد العقوبات الاقتصادية التي فُرضت على النظام دولياً وإقليمياً مما أوقف أو شل حركته الاقتصادية؛ بالتالي أضحت الامتيازات مجرد وعاء فارغ، أداة ضعيفة القيمة على مستوى جني مردودٍ معين، وانتقل الصراع إلى مستويات أبعد من قدرة الفرد على استدامة أو تحصيل أي مكتسبات في خارطة الصراع المعقدة، سيما مع الانتقال إلى السوق السوداء وتوقف دوران عجلة الاقتصاد، السوق الذي يتطلب عصابات أو تجار أزمة لهم ممالكهم الذاتية التي تنمو على أكتاف دول ضعيفة ومتهالكة، وفي حربٍ كهذه لا يمكن للفرد السوري من الطبقة ما دون متوسطة أن يكون جزءًا من تلك الحسابات الضيقة.
عند تلك النقطة، فقد الفرد السوري المؤيد خلال دفاعه عن الأسد مكتسباته وهذا لا بدّ أن يؤدي إلى ضعضعة الولاء والانتماء أو تعرضه للتشويه على الأقل. والذي زاد من مقدار التخلي ما بين الضمني والعلني، المقارنة الحاصلة بين حال المواطن السوري المؤيد مع مناطق الصراع الأخرى ذات التعقيد الشديد، وربما بات الشرخ كبيراً وغير قابل للردم، على الأقل من حيث “حرية التعبير” والوضع السائد ضمن الإطار الاجتماعي، أكثر منه اقتصادياً؛ قد لا تكون مناطق النزاع الأخرى سيما مناطق المعارضة أفضل حالاً بمستويات دخل الفرد لكنها في الغالب متقدمة من ناحية فاعلية المجتمع وحدود التعبير والعمل المدني والنقابي المتطور، مما يخلق نماذجاً غير متساوية في البنى ويعزز انطباعات كانت محرمة قبل الثورة.
بدأت على هذا الأساس تعلو أصوات جديدة وتخفت أخرى في الأعوام القليلة الماضية، تعارض النظام من حيث الإجراءات والقرارات والوضع السائد والفكر القائم لكنها بذات الوقت تؤكد ضمنياً على الولاء ربما بسبب ترسبات الخوف الذي تقلص لكنه ما زال قائماً، هذا الولاء المشكوك فيه جعل حاضنة الأسد المنزاحة عن منطق الاستبداد رهينة أي تحول سياسي في سورية لتعلن ربما تخليها المطلق عنه عندما تحين الفرصة.
خاتمة:
تشكّلت طبيعة النظام السوري، مع كل الحسابات الاقتصادية، على الخوف أكثر من الولاء والانتماء الصادق، الترهيب عنصر أساسي في تشكيل معادلة الاستبداد صعبة التفكيك، ويسيرة الفهم، الخوف الذي يدخل “الترهيب الطائفي” ضمن حساباته أي قدرة النظام على الحشد ضد المكونات السورية الأخرى. وربما ليس من السهل القدرة على فهم طبيعة تشكيل الفرد المؤيد واندفاعته ولا سيما وأنّ هناك عوامل مركبة مختلفة، الفرد السوري يولد خائفاً من الاستبداد ويقدم الطاعة والولاء دون حتّى أن يصل لمرحلة التفكير بالدوافع الاقتصادية أو الامتيازات الفخرية، التي أصحبت عاملاً أكثر وضوحاً ومباشراً بعد الثورة. ورغم ذلك قد يكون من المفيد الاعتقاد بأنّ الثورة السورية، استطاعت فرز المفاهيم وتوضيحها أكثر بعد تقويض آلة الخوف في سورية، وهذا ما يدفع للظن بأن التراشق الذي يحدث بين المؤيدين أنفسهم يشير لتراجع تأثير الخوف عند تأييد الأسد مقارنةً بالمنافع التي يحققها الفرد المؤيد من النظام، والحقيقة من الواضح أنّ الأسد لم يعد قادراً على فرض أو منح أهم عاملين في صياغة نفسية أي فرد مؤيد للاستبداد: الخوف، والامتياز.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت