ما أن انتشر خبر اغتيال أبي ماريا القحطاني قبل يومين حتى أشارت أصابع الاتهام، على وسائل التواصل الاجتماعي، إلى الجولاني زعيم هيئة تحرير الشام-النصرة سابقاً. الاغتيال أتى بتفجير لمضافة القحطاني وهو فيها رفقة آخرين، وقيل أولاً أنه تم بالتحكم عن بعد، ثم أعلنت الهيئة أنه بحزام ناسف كان يرتديه انتحاري. قبل أسبوع أيضاً، من الملاحظ أن الانفجار الإرهابي الذي حدث في سوق مدينة أعزاز مرّ من دون تجييش واتهامات لقسد، وهي الجهة المتهمة عادة بمثل هذه التفجيرات، بينما عبّر ناشطون صراحةً عن الشكّ في أن مصدر السيارة المفخخة ربما يكون أبو محمد الجولاني.
كان جهاز “الأمن العام” التابع للجولاني قد اعتقل القحطاني في منتصف آب 2023، ليُطلق سراحه في السابع من آذار الماضي حسب بيان صادر عن “اللجنة القضائية” في ذلك التاريخ، جاء في نصه أن اللجنة قررت: 1.براءة المدعى عليه: ميسر الجبوري -أبو ماريا القحطاني- من تهمة العمالة. 2.الإفراج عن ميسر الجبوري. وبيان التبرئة المقتضب لا يتطرق إلى حملة الاعتقالات الواسعة التي رافقت اعتقال القحطاني، واعتُبرت بمثابة حملة تطهير يقوم بها الجولاني لاجتثاث منافسيه في التنظيم، والتهمة الموجَّهة لهم هي على شاكلة تهم التخوين المتداولة هنا وهناك.
كان اعتقال القحطاني، وغيره كثر في القضية نفسها، مناسبة للتشكي من انتهاكات جهاز الأمن العام، حيث جاءت الشكاوى هذه المرة من أبناء البيت الواحد. فالمعتقلون عوملوا بقسوة شديدة، ولمدة شهور، ثم أتى الإفراج عنهم وتبرئتهم بطريقة يُراد فيها إظهار تسامح الجولاني مع خصومه؛ أي على النحو المعتاد أيضاً لدى حكام المنطقة إذ يُنظر إلى الإفراج عن الخصوم السياسيين كمَكرمة. هكذا يظهر اغتيال القحطاني بعد الإفراج عنه، إذا صحّت الاتهامات السائدة، استكمالاً لسيرة الاعتقال، خاصةً أن مخابرات الجولاني استغرقت شهوراً لتبرئة المتهمين واستطاعت بسرعة قياسية نسب عملية الاغتيال إلى تنظيم داعش.
جدير بالذكر أن الجولاني وعد في الأسبوع الثاني من شهر آذار المنصرم بإيجاد ديوان للمظالم، مهمته التحقيق في الشكاوى من جهاز الأمن العام، مع وعد بإعادة هيكلة الجهاز. ووعدَ أيضاً بتشكيل مجلس استشاري ينهي تفرّده بالقرار، وبتشكيل جهاز رقابي إداري واقتصادي. وأتت وعوده جميعاً على خلفية مظاهرات مناهضة له في مناطق سيطرته، من مطالبها تنحّيه عن القيادة، وحلّ جهاز مخابراته “الأمن العام”، فضلاً عن مطالب معيشية.
بالطبع لم يُنظر بجدية إلى وعود الجولاني الذي تجاهل عملياً أهم مطلبين، وهما تنحّيه وحلّ جهاز الأمن العام. فالواقعون تحت سيطرته اعتادوا عدم التزامه بالإصلاحات التي سبق أن وعد بها في مناسبات سابقة، كما اعتادوا طبعه المراوغ. الأهم أنه ليس من طبعه أن ينصاع للضغوط المحلية، الضغوط الآتية من محكوميه، وهو يتعاطى بجدية فقط مع تلك الضغوط التي يتعرض لها من قوى خارجية يحسب لها حساباً لتأثيرها على بقاء سيطرته، أو لتأثيره على بقائه شخصياً على قيد الحياة بما أنه موضوع على قائمة الإرهاب الدولية التي “تسـتأنس” بها الإدارة الأمريكية عندما يحين الوقت المناسب لها.
ويصحّ القول أن الاحتجاجات التي اندلعت قبل أسابيع ضد الجولاني، والليونة التي واجهها بها، تشيران إلى أنه يستشعر ضعفاً ما حالياً. ومن دون اتهام المحتجين بأخذ ضوء أخضر لتحركهم، يجوز القول أن أيضاً استشعروا ضعف الجولاني من خلال مؤشرات برزت عشية تحركاتهم، أهمها عودة الإصرار التركي على ضم فصائل إلى “الجيش الوطني”، أو وضعها أمام خيار حلّ نفسها، وهي تحديداً الفصائل التي يُنظر إليها كحليفة للجولاني، وكطابور خامس يعمل لمصلحته في مناطق تسيطر عليها فصائل “الجيش الوطني”.
أي أن الأسابيع الماضية شهدت محاولة تطويق الجولاني عسكرياً، بحرمانه من حلفاء له من خارج هيئة التحرير-النصرة، وتطويقه داخلياً بالمظاهرات والاحتجاجات التي تنزع عنه “الشرعية” الآتية أصلاً من إحكام سيطرته وكمّ أفواه الخاضعين لها. هذا السعي المتكامل يصعب حدوثه من دون توجه تركي تحديداً، ومن المعلوم أن الجولاني يحظى مباشرةً بتغطية تركية يصعب وصفها بأنها مستدامة، فأنقرة في العديد من تفاهماتها مع موسكو وطهران وواشنطن تقرّ “ولو مداورة” بكونه موضوعاً مع تنظيمه على لائحة الإرهاب، وتأخذ عليها موسكو بين الحين والآخر عدم الوفاء بتعهداتها بمحاربة الإرهاب.
قد لا يكون مصير الجولاني موضوعاً فوراً على نار قوية، إلا أنه يبدو كأنه يدرك جدية الرسائل الواردة، ويتصرف في المقابل على أكثر من منحى. فثمة اليوم مبرر لتصديق التكهنات حول مسؤولية الهيئة عن تفجير أعزاز، من منطلق إثبات قدرتها على تفجير الشمال كله إذا وُضعت أمام خيارات صعبة، ومن المعلوم أن للهيئة خبرة واسعة بهذا النوع من القتال سبقت إنشاء دويلتها الحالية. و”تنظيف” البيت الداخلي، بالاعتقالات والتصفية، يكمل الرسالة السابقة لجهة قطع الطريق على سيناريو إقصاء الجولاني والمقرّبين منه كشرط لازم وضروري للخلاص نهائياً من إرث جبهة النصرة.
لقد وضع الجولاني بوعوده المراوغة الحد الأعلى لما ينوي تقديمه من “تنازلات”، بينما إذا صدقت الاتهامات الموجّهة له بالتفجير والاغتيال يكون قد أرسل تلميحاً خفيفاً فقط عمّا يستطيع فعله. في هذا التهديد لا ينطلق الجولاني من فراغ، فهو يدرك أن عدم التخلص منه متصل إلى حد ما بقدرته على إثارة فوضى الإرهاب في منطقة الشمال السوري، ومختلف الأطراف “بما فيها واشنطن” لا تريد انفلاتاً من هذا القبيل ينتظره أيضاً تنظيم داعش بفارغ الصبر.
ما يعلمه الجولاني بوضوح أن تقديم التنازلات لمحكوميه ليس السبيل لاسترضاء واشنطن أو سواها، وهو بالتأكيد خبر سيء للمتظاهرين والمحتجين عليه. وما يدركه جيداً، قبل الضغوط الأخيرة، أنه قد وصل إلى أقصى ما يستطيع مَن مثله الحصول عليه. أي أنه في أي وقت، ونتيجة لأية تفاهمات، مهدَّد بالخسارة الكلية أو الجزئية، ومن الخفة الظن أن وضعه على لائحة المطلوبين الأمريكية هو نوع من الضغط يفتح على تسوية مستقبلية. بعبارة أخرى، هو باقٍ في المؤقّت، والشرط الوحيد لاستمراره أن يطول هذا المؤقت أكثر مما حظي به القحطاني. هل فكّر الجولاني بهذا وهو أمام جثمانه؟ حقاً، بماذا فكّر الجولاني وهو يطبع قبلة الوداع على جبين القحطاني؟
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت