ما اندلعت الأزمة الخليجية لولا دونالد ترامب. حلّت بحلوله رئيساً أميركياً يفتتح جولاته الخارجية إلى الخليج العربي وتحديداً المملكة العربية السعودية. مع خساراته للانتخابات، تنتعش فرص المصالحة وإعادة إحياء مجلس التعاون الخليجي، في موازاة مساع لترتيب العلاقة بين تركيا والمملكة العربية السعودية.
زيارات ولقاءات سرية بين الطرفين، بحث عن تحسين العلاقات، وذلك في إطار لملمة كل الأوراق قبل تسلم إدارة جو بايدن، بحث في إمكانية تعزيز التعاون العسكري والاستخباري بين تركيا والسعودية في المستقبل، لا سيما بعد ثبوب نجاح وفعالية طائرات بيرقدار، والتي قد يتم استخدامها من قبل عدد من الدول العربية. من سوريا إلى ليبيا وأذربيجان، في البحر الأبيض والمتوسط والبحر الأسود، بين النفط والغاز، والتمدد العسكري والمصالحات السياسية، تعمل تركيا على تجميع أكبر كم من الأوراق الرابحة.
ثلاث سنوات تفصل تركيا عن بلوغ مئة سنة بعد الأتاتوركية. في العام 2023، سيطوي رجب طيب أردوغان الأجزاء الكبرى مما أرساه مصطفى كمال أتاتورك، ليفتتح قرناً جديداً للجمهورية التركية بصيغتها الأردوغانية. معالم تركيا السياسية، الاقتصادية، الثقافية، والعلاقات مع كلّ العالم ودول الجوار ستشهد تغيّرا جوهريا.
ينطلق أردوغان من نجاحه في إجهاض الانقلاب الداخلي عليه، كأوّل زعيم تركي ينجح في الصمود بوجه الانقلابات، فيما طبعت الحقبة الأتاتوركية بعهود الانقلابات العسكرية على الرؤساء المنتخبين، وبسطوة الجيش على المفاصل السياسية والإدارية في تركيا. في عهد أردوغان وتحديداً ما بعد الانقلاب الأخير، وما بعد الاستفتاء الذي نجح فيه الرئيس التركي بتحويل بلاده إلى نظام رئاسي يتسيّده بنفسه… انعدم نفوذ الجيش، مقابل تعزيز نفوذ جهاز الاستخبارات.
حقان فيدان بات رجل تركيا القوي، ونصير أردوغان، رئيس الاستخبارات الذي نال الثقة الكاملة من رئيسه بعد أن كان أوّل من كشف الستار عن الانقلاب العسكري الفاشل، مفوضاً بوضع سياسة وخطط تركية لافتتاح القرن الجديد من تاريخ الجمهورية التركية.
تتسع مطامح فيدان، من سوريا إلى العراق، وصولاً إلى ليبيا وشرق البحر الأبيض المتوسط، لتحفظ أنقرة حقوقها ومصالحها النفطية والغازية في وسط البحر. وهي التي تستعد لتطوي مئة سنة على اتفاقية لوزان، كي تبدأ في عمليات التنقيب عن النفط داخل أراضيها ومياهها. كان لا بدّ من ذهاب أردوغان إلى ليبيا ليمنع تكوين جبهة إقليمية مناهضة لتركيا، تعمل على محاصرتها وتطويقها من مصر والأردن وإسرائيل واليونان وقبرص.
حقان فيدان هو أحد الممسكين بزمام مبادرة المشروع التركي في المنطقة. اتفاقية لوزان بالنسبة إلى الأتراك ظالمة، ومنعت تركيا من التمتع بنفوذ سياسي في المنطقة لمدة مئة عام، بخلاف المشروع الإيراني وغيره. تنتظر تركيا هذه المحطّة لاستعادة الدور والنفوذ، الذي بدأ التمهيد له منذ سنوات، في الدول الآنفة الذكر. لبنان لا بدّ أن يكون على الخريطة التركية أيضاً.
قبل حوالي سنة، زار وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو بيروت، وفاتح المسؤولين اللبنانيين بطلب عقد اتفاق على ترسيم الخطوط البحرية. لم يلقَ استجابة لبنانية، لكنّه يريد فقط ضمان عدم ذهاب لبنان إلى التوافق والترسيم مع اليونان وقبرص بمعزل عن تركيا.
اتّخذت أنقرة قرار الدخول إلى ليبيا، على طول الخط البحري. لأنّها تنطلق من ضرورة الاحتفاظ بمناطق نفوذ، ولبنان لن يكون بمنأى عنها مستقبلاً. خاصة أنّ تركيا تراهن على دور لها في لبنان استناداً إلى معطيات عديدة، أبرزها استشعارها “القهر السنّي” الهائل بفعل الفراغ العربي، وبفعل غياب وانعدام أيّ مشروع سياسي قادر على احتضان السنّة وإثبات فعاليتهم في المعادلة الوطنية. تراهن تركيا على الشعور بالوهن السنّي، مرتكزة على شعبية أردوغان وتقديم نموذجه الناجح سياسياً واقتصادياً، الذي يجعله مثالاً تتلاقى معه طموحات كثير من اللبنانيين. وهؤلاء يحتفظون في وجدانهم بكثير من الحنين إلى السلطنة العثمانية.
في العام 2023 مثلاً، تستعيد تركيا كثيرا من أملاكها في لبنان، مثل “مدرسة حوض الولاية”، و”السراي الحكومي” في بيروت، وأملاكاً كثيرة مستأجرة بقيمة عملة انقضى عليها الزمن. كما تستعيد تركيا سيادتها على مضيق البوسفور، الذي جعلته اتفاقية لوزان مضيقاً مفتوحاً أمام السفن التجارية لكلّ دول العالم.
يسعى أردوغان إلى إعلان تركيا الأردوغانية خلال السنوات المقبلة، مرتكزاً على الثقافة الإسلامية أو العثمانية، التي يستعيد من خلالها سلاحاً ثقافياً تاريخياً، من أرطغرل والمؤسس عثمان، إلى السلطان عبد الحميد.
حاكت الدرما التركية عناصر تكوين السلطنة العثمانية وتأسيسها، وآخر حقبها في عهد السلطان عبد الحميد، الذي يركّز أردوغان في اللاوعي الثقافي المراد إرساؤه، على تجديد انطلاقة تركيا في عهده، من حيث انتهى عهد عبد الحميد. ذاك الذي تُرك وحيداً وتعرّض للمكائد والمؤامرات، تماماً كما يصوّر أردوغان نفسه ضحية. حتّى إنّ الجموع المؤيدة لأردوغان ومنذ ما بعد الانقلاب إلى ما بعد الاستفتاء يردّدون بأنهم لن يتركوه وحيداً كما تُرك عبد الحميد من قبل.
يتجاوز أردوغان بشخصه وشعبويته، مدارات حزب العدالة والتنمية. هو الذي أصبح بنظر نفسه أكبر من الحزب الذي تتجاذبه خلافات كثيرة، لم تكن آخر محطاته، تأسيس ميرال أكشنار “حزب الخير”، ولا ذهاب لدوده اللصيق سابقاً أحمد داوود أوغلو مع علي باباجان إلى تأسيس حزب جديد، يفترض أن يغرف من صحن العدالة والتنمية. مرحلة الحزب كانت انتقالية بالنسبة إلى أردوغان، الذي يريد أن يكون أكبر من المؤسسة الحزبية التي أنتجته وجاءت به، تماماً كما كان عبد الحميد في علاقته مع السلطنة والباشوات. وهو الذي لا يفارق دعائياته عبد الحميد ومشاريعه. فيدّعي أّنّ تنمويته مستمدّة مما بدأه عبد الحميد، وأنّها استمرار لمساره، من البنى التحتية، والمعابر والأنفاق المائية، وآخرها نفق أوراسيا.
تنتظر تركيا سنوات ثلاث لتطوي مرحلة اتفاقية لوزان، وتفتح مرحلة جديدة، يسعى أردوغان من خلالها إلى توسيع نفوذه في دول الجوار، التي تضجّ بالأزمات والفراغات الهائلة، مراهناً على أنّ الطبيعة لا تقبل الفراغ. وهو تجتمع فيه تناقضات كثيرة، من تحالفه مع حزب الحركة القومية، أو إسلاميته
التي يعبّر من خلالها عدم الانحسار داخل حدود وطنية، فتتوسع مشاريعه إلى سوريا ولبنان والعراق وليبيا. وهو الذي يستمر في محاولات ترتيب علاقته بإسرائيل والفلسطينيين معاً، عارفاً أن لا مجال للشروع في تخطّي الحدود التركية دون علاقة جيدة مع إسرائيل، حالياً ينتظر أردوغان حصول انقلاب إسرائيلي على بنيامين نتنياهو، سيرسي متغيرات كثيرة، لا بد لها أن تنعكس على واقع المنطقة ككل.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت