شهدت العلاقات بين أنقرة ودمشق مرحلة جديدة من التصعيد والتوتر بعد آذار 2011 على حساب تفاهمات الشراكة والجوار التي أسست لانفتاح سياسي واقتصادي وأمني بين البلدين. قررت أنقرة دعم الحراك الثوري في أكثر من عاصمة عربية وراهنت على سقوط سريع لنظام الأسد مثل غيرها من اللاعبين الإقليميين والدوليين. لجأ النظام إلى طهران وموسكو لحمايته فانتقلت الثورة من وضعية أشهر وتنتهي إلى سنوات لا تنتهي، وتحول المشهد السوري إلى أزمة إقليمية دولية متداخلة متشابكة تزداد تعقيدا يوما بعد آخر.
من مقولة إن تركيا لم يكن بوسعها التزام الصمت إزاء الوضع في سوريا والأزمة التي أدت إلى مقتل نحو مليون إنسان ونزوح 12 مليوناً آخرين. إلى الإعلان أن الوجود العسكري التركي في سوريا مرهون بالتوصل إلى حل دائم للأزمة.
“حلب ستتحوّل إلى المقبرة التي تدفن فيها أحلام أردوغان” هو ما قاله الأسد بتشجيع روسي – إيراني. فجاء الرد التركي عبر استخدام القوة الخشنة على جبهات شمال سوريا لإفهام دمشق أن تركيا لن تتراجع عن حماية مصالحها وأمنها في الحدود الجنوبية.
من دعم للثورة قبل عقد وتذكير تركي بأهمية مدينة حلب وامتدادها التاريخي بالنسبة لأنقرة إلى حرب مواقع ضيقة على الحدود التركية السورية. ناهيك عن انتقال العديد من العواصم الغربية والعربية التي كانت تنسق مع تركيا في الملف السوري إلى المتاريس المقابلة ودخولها في عملية اصطفاف آخر بعدما تعارضت الحسابات والمصالح.
من حالة دعم للمواطن السوري الطامح للوصول إلى حقوقه السياسية والاجتماعية إلى وضعية تأمين احتياجات مئات الآلاف من النازحين واللاجئين. الهدف التركي كان دعم مطلب الحرية والديمقراطية في مواجهة نظام الأسد فتحول الأمر إلى منع مشروع التقسيم وبناء كانتونات انفصالية على الحدود الجنوبية لتركيا. من حلم الجار السوري المتحرر المنفتح والشريك إلى بحث مصير بلدة عين عيسى وبيد من ستكون وما الذي يعده البعض لمدينة القامشلي في مشروع سوريا الجديدة.
تركيا بعدما نسّقت مع الروس والإيرانيين في مساري أستانا وسوتشي ونفذت ثلاث عمليات عسكرية واسعة في الشمال السوري تجد نفسها أمام عملية جديدة لا مفر منها لمواصلة قطع أوصال مشروع ربط الكانتونات ببعضها البعض.
لقاء آخر عقد قبل أيام بين وزيري الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو ونظيره الروسي سيرغي لافروف في سوتشي لبحث تفرعات المشهد السوري على أكثر من جبهة. لافروف متمسك بمسار أستانا ودعم عمل اللجنة الدستورية والانتخابات في سوريا، وجاويش أوغلو يعطي الأولوية للتطورات في الشمال وخطط إبعاد قسد عن الحدود التركية في الجنوب. واشنطن تمنع بالمقابل آية تفاهمات بين حليفها المحلي الكردي وبين النظام وموسكو في شرق الفرات.
الكعكة السورية موزعة بين النفوذ الأميركي في شمال شرقي سوريا وشرق البلاد وبين النفوذ الروسي في الساحل والتركي في المناطق الشمالية الواقعة إلى الغرب من الفرات حتى حدود المنطقة الساحلية والهيمنة الإسرائيلية على حركة المرور في جنوب سوريا. دون إغفال التوغل الإيراني المذهبي في العديد من مناطق سيطرة النظام. أين تركيا ودورها في غرب وجنوب سوريا مثلا وما يعد هناك؟
عروض موسكو الثابتة هي إيصال قوات حليفها النظام إلى مناطق الحدود السورية التركية مجددا كخيار وحيد تلزم أنقرة به لمواجهة إصرار واشنطن على محاصرتها بالمشروع الكردي الكونفدرالي ولعب ورقة قسد حتى النهاية. الأنظار مشدودة نحو البيت الابيض وساكنه الجديد جو بايدن لمعرفة ما الذي سيقوله ويفعله.
أكثر ما قد نسمعه من عبارات وعروض هذا العام هو ضرورة قبول الوساطة الروسية الإيرانية بين أنقرة والنظام في دمشق الذي يتمسك بمواجهة مصالح تركيا مع كل من يناصبها العداء، ولأن الكثير من المعادلات والمعطيات تغيرت. خصوصا إذا جاء بايدن ليساوم على مشروعه الكونفدرالي الكردي ويحاصر تركيا بشمال سوريا بعد شمال العراق.
تركيا كانت مجبرة على تغيير وتعديل سياستها السورية أمام التطورات العسكرية والميدانية على حدودها الجنوبية وهي اليوم في وضعية الرد على محاولات روسية إيرانية لإبقاء النظام في غرفة العناية الفائقة كورقة رابحة من جهة ومواجهة أي تحرك أميركي لتسجيل اختراق سياسي دستوري عبر إهداء حليفه المحلي لعبة المشروع الانفصالي من جهة أخرى. التفاهمات التركية الروسية تكاد تتحول إلى مصيدة لأنقرة في الفخ السوري خصوصا إذا ما جاء بايدن ليعلن أنه سيكتفي بشرط حماية مصالح الحليف المحلي الكردي ويتنازل عن ترك الملف بيد موسكو لتتصرف كما تشاء مع بقية اللاعبين المحليين والإقليميين.
موسكو تتحدث عن أهمّية الحلّ السياسي في سوريا، لكنّها لا تتنازل عن طرح أن المرحلة الإنتقالية لا بد أن تأخذ في الاعتبار وجود الأسد الدائم أمام الطاولة من دون أية ضمانات زمنية. هي حصلت على أكثر مما كانت تتوقعه وتريده في سوريا. ورطت الجميع في اللعبة وعقدتها إلى درجة أن لا يغادرها أحدا دون موافقتها ورضاها.
موسكو تتريث بانتظار تسلم بايدن لإدارة شؤون البيت الأبيض ليقرع أبوابها كلاعب أول في سوريا ومحاولة عرض فتح صفحة جديدة من الحوار معها للمساومة على ملفات إقليمية عديدة. هي لن تتردد بتبني برغماتية جديدة على حساب العديد من حلفائها وشركائها إذا ما كانت عروض بايدن مغرية. وأنقرة لا بد أن تضع هذا الاحتمال أيضا على الطاولة وهي تدرس مسار الملف السوري في العام الجديد. السباق قد يتحول إلى روسي تركي نحو البيت الأبيض إذا ما أشعل بايدن الضوء الأخضر أمام الروس والأتراك معا. فهل سيختار أحدهما أم سيحولها إلى أستانا بديلة تدفع إيران الثمن فيها؟
هناك من يردد في أنقرة اليوم أن تعقيدات المشهد السوري ودخول أكثر من لاعب إقليمي على خط الأزمة حرمها الكثير من الفرص وتركها أمام ورطة الاصطفافات الواسعة ضدها. لكن الأهم والأخطر يبقى تهديدات ومخاطر خروج الأمور عن مسارها الحالي والتقدم أكثر فأكثر نحو المجهول.
في العام 2021 لا مفر من تحول جذري في سياسة تركيا السورية طالما أن الحديث في أنقرة يدور حول تغيير ومراجعة سياسات ومواقف داخلية وخارجية.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت