تهيّمن مؤشرات “التنافس والتصعيد غير المباشر” على المصالح المتداخلة لكل من تركيا وإيران في سورية والعراق، وهو ما بدا خلال الأيام الأخيرة، على أكثر من صعيد، ولاسيما قبل وبعد القمة الثلاثية الأخيرة في طهران.
واستضافت القمة قادة تركيا وإيران وروسيا رجب طيب أردوغان وإبراهيم رئيسي وفلاديمير بوتين، حيث ناقش هؤلاء الملف السوري بالتحديد، وقضية العملية العسكرية التي تهدد بتنفيذها أنقرة في شمال سورية.
وكان لافتاً أن البيان الختامي للقمة لم يكن في صالح الدفع باتجاه العملية التركية، فيما سادت أجواء “رفض ومعارضة” من جانب طهران، كما اتضح من كلام المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي ومن ثم الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته، حسين أمير عبد اللهيان.
وقال خامنئي إن “العملية العسكرية (التي تعتزم تركيا إطلاقها) في سورية من شأنها أن تزعزع استقرار المنطقة”، مخاطباً أردوغان: “اعتبروا أمن سورية من أمنكم. إن قضايا سورية يجب حلها بالتفاوض وعلى إيران وتركيا وسورية وروسيا حل هذه المسألة بالحوار”.
ولم تمض ساعات على انتهاء اللقاء الثلاثي، ليخرج الرئيس التركي في أثناء وصوله إلى أنقرة، مؤكداً نية بلاده شن العملية العسكرية، وأن موضوعها “سيظل على جدول الأعمال طالما لم يتم حل مخاوفنا المتعلقة بأمننا القومي”.
وهذان الموقفان المتعارضان بشأن سورية يشيان بعدم التوصل إلى نقاط مشتركة بين أنقرة وطهران، حسب مراقبين، في وقت بدا فيه صوت الأخيرة على نحو أعلى مما قبل، حيث كانت نبرة روسيا حاضرة في كل الملفات، العسكرية والسياسية، المتعلقة بسورية.
“الجبهة من الشرق”
وبينما كانت الأنظار تتجه إلى سورية ومواقف كل من أنقرة وطهران بشأن العملية العسكرية سرعان ما تحوّلت بعد القمة الثلاثية بيوم واحد إلى أقصى الشرق، حيث الدولة المجاورة لسورية العراق.
واستهدف قصف مفاجئ منتجعاً سياحياً في قضاء زاخو بمحافظة دهوك، ما أسفر عن مقتل 9 مدنيين بينهم نساء وأطفال، وإصابة 23 آخرين، في حادثة حملت بغداد مسؤوليتها للجيش التركي، فيما نفت أنقرة ذلك، مؤكدة أن الطرف الذي قصف هو “حزب العمال الكردستاني”.
ومنذ تاريخ الحادثة في 20 من يوليو / تموز الحالي والشارع العراقي “يغلي”، وفي حين استمرت الاتهامات العراقية وما يقابلها من نفي تركي، اتضح نوع من “استثمار الأحداث”، الذي بدأته أطراف مقربة من إيران وميليشيات مدعومة منها هناك.
وأعلنت، صباح السبت، مجموعة تسمي نفسها “سرايا أولياء الدم” استهداف قواعد عسكرية تركية في شمال العراق، بطائرات مسيّرة انتحارية، وصواريخ من نوع غراد. وهذه المجموعة تتلقى دعماً عسكرياً من طهران، وتحسب على ميليشياتها المنتشرة في العراق، حسب تقارير متقاطعة.
وفي حين أن ما حصل ليس بجديد، إلا أنه يأتي في ظل الحديث عن عمليات تصعيد كلامي غير مباشر ما بين أنقرة وطهران، في ظل تضارب مواقفهما، وبشكل خاص في سورية، حيث تعتزم تركيا إطلاق عمليتها العسكرية.
“محاولة نشر النار”
ويقول الكاتب التركي، حسن بصري يالتشين في مقالة له على صحيفة “صباح”، يوم السبت، أنه وفي القمة الثلاثية في طهران لم يغير الطرفان موقفهما كثيراً، في إشارة إلى تركيا وإيران
ويضيف الكاتب: “المعارضة الإيرانية بشكل خاص تلفت الانتباه إلى العملية العسكرية التي تخطط تركيا لتنفيذها في سورية. علاوة على ذلك، لا ينبغي أن تكون مجرد مصادفة أن تركيا قد تم تحميلها المسؤولية عن الهجوم الذي قتل فيه 9 مدنيين”، في دهوك بالعراق.
و”تواصل الإدارة العراقية الإدلاء بتصريحات رفيعة المستوى دون داع”، حسب يالتشين، مشيراً إلى “الحشود الكبيرة التي بدأت في التظاهر قبل أن يُعرف الحدث (قصف دهوك) حتى، تُظهر أن هذه المظاهرات نُظمت بشكل احترافي”.
“مثل هذه الأعمال من النوع الذي تستخدمه إيران كثيراً. إن محاولة نشر النار عندما تكون عالقة في مكان واحد هي إحدى أبسط أساليب سياسة إيران تجاه الشرق الأوسط”.
وبالإضافة إلى ذلك كانت إيران منزعجة من التقدم التركي في شمال العراق. “لذلك ربما خططت لضرب عصفورين بحجر واحد”، وفق الكاتب.
واعتبر أنه و”نظراً لعدم قدرة إيران على منع دخول تركيا في سورية، يبدو أنها تلمح إلى نشر التوتر في مناطق أخرى”.
وهذه التداعيات “لا تردع تركيا”، وفق يالتشين.
وزاد: “الدبلوماسية الإيرانية بشكل عام موجهة نحو العمليات وليست موجهة نحو النتائج. على الرغم من أنها تعلم أنها لن نحصل على نتائج، إلا أنها تفضل دائماً الاسترخاء من خلال تصعيد التوتر. ربما لا يستطيع منع عملية عسكرية، لكنها نعتقد أنها يمكنها أن تزيد على الأقل من فرصها في المساومة في مجالات أخرى”.
هل تخرج المنافسة عن السيطرة؟
على مدى السنوات الماضية من الفوضى التي شهدها التوازن الإقليمي في الشرق الأوسط، اتسمت العلاقة بين تركيا وإيران، وهما دولتان متجاورتان بالتعاون وتبادل المصالح المشتركة.
وكان لكل من أنقرة وطهران مواقف داعمة ومتناغمة مع الأخرى، في تصالح وضع في خانة “البراغماتية” التي اتبعها الطرفان.
وعلى الطرف المقابل، كان هناك ملفات تنافسية عدة بين أنقرة وطهران، لذلك تم وصفهما بـ “الأعداء والأصدقاء” في آن واحد.
وتقاطعت هذه الملفات في كل من سورية منذ انطلاقة الثورة السورية فيها، وفي العراق أيضاً، بالإضافة إلى أذربيجان التي تربطها مع إيران حدود طويلة.
ويقول الباحث في الشأن التركي والعلاقات الدولية، محمود علوش: “من الواضح أن التحول الروسي نحو حرب أوكرانيا دفع تركيا وإيران للاستفادة من ذلك، لتحسين موقفهما بما يتعلق بسورية والمنطقة عموماً”.
وترى إيران في الانشغال الروسي بأوكرانيا “فرصة لتعزيز حضورها السياسي والعسكري والاقتصادي في سورية”، بينما يبدو أن تركيا “مصممة على هذا التحوّل أيضاً لتحسين وضعها العسكري، وفيما يتعلق بحربها ضد وحدات حماية الشعب”.
ويضيف الباحث لموقع “السورية.نت”: “هذه الطموحات التركية الإيرانية تضع البلدين بشكل تنافسي حاد في هذه المرحلة. هذا التنافس نشهده في سورية والعراق الآن”.
وخلال السنوات الماضية وبعد تشكيل مسار “أستانة” لعبت روسيا دوراً هاماً “في ضبط إيقاع التنافس الإيراني التركي في سورية”.
أما في الوقت الحالي، فيوضح علوش: “يبدو أنها منشغلة في قضايا أخرى. بوتين لا يتحمل أي اضطراب في التوازن السوري، ولذلك مجبر على لعب دور أكبر لإدارة التنافس وعدم خروج الإيقاع عن السيطرة”.
وقد يدفع “أي اضطراب في التوازن السوري روسيا لتخصيص بعض مورادها العسكرية للتركيز على سورية، وهذا الأمر لا يستطيع بوتين فعله لأن له اهتمامات عسكرية أخرى في أوكرانيا”.
“رسالة روسية”
وحتى الآن لا يعرف بالتحديد الموقف الروسي مما تطالب به أنقرة شمال سورية، أو حتى بخصوص المواقف الإيرانية التي تأتي معها بصورة متناغمة.
وفي القمة الأخيرة بطهران كان هناك “رسالة روسية واضحة بأن موسكو تلعب دوراً قيادياً، فيما يتعلق بإدارة التنافس داخل مسار أستانة، والعلاقة التنافسية بين طهران وأنقرة في سورية”.
وفيما يتعلق بالعراق يشير الباحث علوش إلى أن “التنافس هناك يتأثر صعوداً وهبوطاً بطبيعة التنافس في سورية. كلما ارتفع التنافس في سورية سيكون هناك ارتفاع في الجبهة العراقية”.
وحسب الباحث فإن الأيام الماضية شهدت محاولة إيران “استغلال ما حصل في زاخو بالعراق، متجهة لدفع بغداد إلى أزمة دبلوماسية مع تركيا”.
وهناك دفع من جانبها أيضاً “اتجاه تحريض الرأي العام الكردي في كردستان العراق على تركيا”، وهذا الأمر تعتقد إيران أنه “سيساعدها في تعويم حلفائها، ولاسيما الحزب الوطني الكردستاني”.
ويضيف علوش: “تركيا وإيران ستحاولان مواصلة إدارة هذا التنافس. لا شك أنه ببعض المراحل سيكون على نحو حاد، إلا أن التداخل بينهما في قضايا مختلفة، فضلاً عن الجغرافيا ستبقيه ضمن حدود السيطرة”.