قرّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الهروب إلى الأمام بإعلان أنه لا يخادع عندما يعلن جهوزية بلاده لاستخدام أسلحة نووية للدفاع عن بلده. ما يقصده بوتين هو حتما الجغرافية الروسية الجديدة بعد عملية إلحاق أربعة أقاليم أوكرانية بالدولة الروسية. وجاء الرد الأسرع بواسطة المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية الجنرال المتقاعد ديفيد بترايوس، الذي تعكس تصريحاته مواقف الأوساط العسكرية والاستخبارية الأميركية ذات التأثير العميق داخل مؤسستي الجيش والاستخبارات وداخل مؤسسة الكونغرس: “الولايات المتحدة وحلفاؤها سيدمّرون القوات والمعدّات الروسية في المناطق المحتلة، وسيغرقون أسطولها في البحر الأسود إذا استخدم الرئيس بوتين أسلحة نووية في أوكرانيا”.
بعد أيام فقط، تعهد الكرملين، هذه المرّة، باستعادة الأراضي الأوكرانية التي استردّتها كييف في المناطق التي احتلتها القوات الروسية وضمتها لجغرافيتها في أعقاب استفتاء صوري، طرح الانفصال عن الوطن الأم، ودعمته الأغلبية السلافية هناك. الغزو والاحتلال والقضم والضم حالات معروفة ومكرّرة على مستوى العلاقات الدولية والقانون الدولي العام. هناك عشرات من النماذج والأمثلة حدثت في العقود الأخيرة، وتحت أعين منظمة الأمم المتحدة منذ تأسيسها قبل ثمانية عقود، وفشلت هذه بكل مؤسساتها وهيئاتها السياسية والشعبية والحقوقية في إعادة الحق إلى أصحابه والوقوف إلى جانب دول انتهكت سيادتها وفقدت أراضيها بعدما وصلت الشجاعة والتحدّي لدى بعضهم إلى درجة إعلان أنها ستسترد بالقوة ما حصلت عليها بالقوة.
تعوّل موسكو على موسم الشتاء القارس في أوروبا ليساعدها على حسم مسار المعارك في أوكرانيا. والغرب يريد تجاوز مشقة أيام البرد هذا العام على الأقل استعدادا للتخلّي عن الحاجة إلى الطاقة الروسية، والتمسّك بمواجهة موسكو في أوكرانيا، والحؤول دون وصول بوتين إلى ما يريده هناك. باستثناء الأصوات التي تعلو من أنقرة بين حين وآخر حول جهود الوساطة بين طرفي النزاع، لا مؤشّرات حقيقية أو بوارق أمل أن الحرب ستتوقف قريبا. العكس هو الصحيح. كل الأطراف المحلية والإقليمية المعنية في الأزمة تستعد لأشهر طويلة من المواجهات على كل الجبهات العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.
قاد تفكّك الأمبراطورية السوفييتية، في أواخر ثمانينيات القرن المنصرم، إلى انهيار لعبة التوازنات العالمية القائمة، وفتح الطريق أمام الأحادية القطبية وحالة أميركية جديدة لم تستغلها واشنطن كما ينبغي. استردّت موسكو ثقلها ونفوذها في مطلع الألفية الجديدة، بعد إعادة بناء كثير مما تهدّم في بيتها الداخلي وحدائقها الخلفية، لكنها لم توقف التمدّد الغربي ومحاولات اقترابه أكثر فأكثر من جغرافيتها الاستراتيجية. احتدم صراع النفوذ والمواجهة الروسية الأميركية بعد لعبة اصطفافات دولية ألحقت بمصالح الجانبين وخططهما خسائر فادحة لصالح لاعبين آخرين ذكّروا بحصصهم ومصالحهم في نظام التعدّدية القطبية. فتح أبواب السير في المجهول كان النتيجة الأولية لغزو أوكرانيا. القضم والضم الروسيين في محاولة لرسم حدود جديدة قابلهما إصرار كييف بدعم غربي على المواجهة.
سيقوم المنطق الروسي المعتمد إقليميا ودوليا على التدخل العسكري المباشر عند اللزوم لحماية مصالح الأقلية السلافية أينما كانت. روسيا التي اتهمت الغرب بتغيير الخرائط أو تجاهل ذلك في أكثر من بقعة جغرافية تفعل هي ذلك اليوم، والواضح أن موسكو فشلت في قراءة مسار الحرب التي شنتها قبل أكثر من سبعة أشهر ضد جارها الأوكراني. كانت تعتبرها عملية خاطفة تنتهي باستسلام القوات المدافعة خلال أيام أو أسابيع قليلة على أبعد تقدير، لكن مقاومة الأوكرانيين، بدعم غربي واسع، خيّب آمال روسيا وتوقعاتها. قرار الاستدعاء الجزئي لقوات الاحتياط وإغراء المرتزقة بوعود الجنسية الروسية وإعلان كييف أنها بدأت تسترد بعض المناطق المحتلة والواقعة داخل مشروع القضم والضم خير دليل على ذلك.
هناك أراض أوكرانية ضمّتها القوات الروسية إلى حدودها الجغرافية بقوة السلاح والصناديق الجوّالة في القرم تحت القصف. وهناك موسكو التي تعلن أنها ستدافع عن دولتها الجديدة في إطار المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة الذي يمنحها حق الدفاع عن النفس في مواجهة أي عدوان أوكراني. وقد تحدّثت موسكو باستمرار عن عملية عسكرية خاصة تنفذها القوات الروسية دفاعا عن الإقليم السلافي في القرم، لكنها بعد قرار الاستفتاء والضم، ستتحدّث عن حالة سياسية وعسكرية وقانونية جديدة تعطيها حقّ الدفاع المشروع عن النفس، مستقوية بميثاق الأمم المتحدة وإعلان الحرب على أوكرانيا التي تهاجم أراضيها، واستخدام السلاح النووي سيكون في إطار دفاعي وليس هجوميا.
صفحة جديدة في منطق العلاقات الدولية والاحتكام إلى القانون الدولي العام تعني المنظمات والهيئات والدول التي تتابع ما يجري، وفي مقدمتها تركيا، لأنها ستكون في مقدّمة من سيقلق وهي ترسم معالم علاقتها مع روسيا الجديدة. وبين النتائج الأولية للحرب الروسية الأوكرانية أيضا ولادة نفوذ روسي أوسع في البلطيق وبحر آزوف الذي سيتحوّل الى بحر داخلي روسي، وهيمنة أكبر على معادلات حوض البحر الأسود والاقتراب من أوديسا والمضائق التركية أكثر فأكثر ووضعها تحت أعين موسكو وبين أهدافها… كيف سترد أنقرة على مطالب الكرملين المحتملة بفتح الطريق أمام البواخر التجارية الروسية التي ستنقل الحبوب من القرم (الأراضي الروسية الجديدة) إلى العالم الخارجي، وحيث تلزمها اتفاقية مونترو للمضائق بالتعاون وتسهيل عبور السفن التجارية؟ وكيف سيكون شكل العلاقة المحتملة بين أنقرة وموسكو عندما تطالب الأخيرة الأتراك بتحمّل مسؤولية استخدام القوات الأوكرانية المسيّرات التركية في استهداف أراضي الدولة الروسية الجديدة، بعكس ما كانت تقوله تركيا عن دفاع أوكرانيا عن نفسها في مواجهة العدوان الروسي؟
ستنجح واشنطن، عن قصد أو من دون قصد، في الوصول إلى هدف توتير العلاقات التركية الروسية بسبب الملف الأوكراني. إلحاق روسيا مناطق استراتيجية أوكرانية متداخلة ومتشابكة إلى هذه الدرجة سيفجّر منطقة البحر الأسود بأكملها، وسيدفع أنقرة نحو خيارات صعبة في موضوع الحيادية وموازنة العلاقة بين الروس والغرب في الملف الأوكراني.
أوكرانيا بعد الآن دولة معتدية على حدود الدولة الروسية الجديدة في نظر موسكو. وهي ستبذل كل جهودها لمواجهة العدوان، واستخدام حقها المشروع في الدفاع عن نفسها ومواجهة الغزاة الأوكرانيين المدعومين من الغرب. من حقها إعلان الحرب على من تريد كونه يدعم المعتدي، وهذا يعني تفعيل نظرية الرد الاستباقي أولا، ثم استخدام السلاح النووي كما يطالب قديروف، الزعيم الشيشاني وحليف بوتين: “على موسكو التفكير في استخدام سلاح نووي منخفض القوة في أوكرانيا لدفعها إلى الاستسلام”.
دعا وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، الغرب إلى التوقف عن محاولة إلحاق هزيمة ساحقة بالقوات الروسية في أوكرانيا، محذّرًا من أن ذلك ستكون له عواقب وخيمة على استقرار أوروبا على المدى البعيد. وطالب أيضا بإرضاء موسكو بمنحها بعض الأراضي في شرق أوكرانيا للحؤول دون وقوع الكارثة العالمية الكبرى. قد يكون الخيار السلمي الوحيد بيد الغرب لوقف روسيا، أما غير ذلك، فيعني أن الغرب قبل التحدّي حتى النهاية، مهما كانت العواقب.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت