تشرد وتسول وتسرب في إدلب..”بيتٌ” يحاول ترميم حياة أطفال بلا عائلات
دفع العنف الأسري الذي تعرّض له الطفل محمد (اسم مستعار-حفاظاً على خصوصيته) نحو الهروب من عائلته التي لجأت قبل سنوات إلى تركيا، لكنهُ غادرها وحيداً لشمال سورية، حيث يعيش مشرداً في شوارع مدينة إدلب.
كان محمد (12 عاماً) الذي تحوّل إلى متسوّل يسأل المارّة مالاً وطعاماً في ساحة رئيسية وسط المدينة، ضحية تعنيف وظلم من زوجة أبيه في تركيا، قبل أن يقرر الفرار من العائلة، ويعبر الحدود إلى سورية، وتكتب له قصة نجاة جديدة.
محمد كأطفال آخرين، تركت حرب نظام الأسد، ندباتها على حياتهم في مناطق شمال غربي سورية، إذ لا يخلو شارعٌ من وجود طفل مشرد أو متسول أو عامل، وفي أحسن الأحوال متسرب من المدرسة دون تعليم.
وعلى اختلاف وتباين الظروف التي أودت بالأطفال إلى الحالة المأساوية التي وصلوا إليها، من عنف أسري أو ضائقة معيشية وتردي الواقع الاقتصادي أو تخلي ذويهم عنهم وغيرها، هناك ثابت وحيد بضرورة التحرك لإنقاذ جيل واسع من الصغار، وهو ما تحاول منظمات ومراكز مجتمعية العمل عليه ضمن نطاق الاستجابة الإنسانية المحدودة.
تردٍ معيشي
استقرّ يوسف (اسم مستعار) مع إخوته الصغار الأربعة عند عمّه في مخيمٍ للنازحين على الحدود السورية ـ التركية، بعد وفاة الأب وزواج الأم من رجلٍ آخر وتخليها عن أطفالها.
وكان الحال الجديد لدى عمّ يوسف القاطن في خيمةٍ واحدةٍ شمالي إدلب مع 6 أطفال، ثقيلاً معيشياً، إذ لم يكن بسبب الظرف الاقتصادي المتدهور قادراً على تأمين قوت 5 أطفال إضافيين لعائلته الكبيرة بعد تهجيره، الأمر الذي دفع مدير المخيم الذي يقطن فيه يوسف إلى التواصل مع مركز مختص في رعاية الأطفال من هذه الفئة، من أجل نقل الأطفال إليه.
محمد ويوسف وإخوته صاروا اليوم من نزلاء مركز “بيت الطفل” شمالي إدلب، الذي يعتني بالأطفال المنقطعين وغير المصحوبين أو تخلى عنهم ذووهم، وبدأوا بمتابعة نشاطاتهم اليومية بدءاً من التعليم وانتهاءً باللعب وممارسة مختلف الهوايات، في حين ما يزال آخرون مشرّدون ومتسولون.
ويوضح القائمون على المركز أنّ محمد الذي بدأ سنته الدراسية الأولى بعد انقطاع لسنوات، لا يجيد حرفاً واحداً من اللغة، ويخضع لاعتناء بالغ حتى يعوض النقص العلمي والمعرفي ويعود طفلاً طبيعياً.
مركز وحيد
يقول يونس أبو أمين مشرف فريق إدارة الحالة في المركز لـ”السورية.نت”، إنّ “بيت الطفل” هو المركز الوحيد في إدلب والمنطقة الذي يرعى أطفالاً منفصلين عن عوائلهم، أو غير مصحوبين (يغيب شخص يرعاهم) أو مشردين أو حديثي الولادة ومجهولي النسب.
يوضح يونس، أنّ إقامة الأطفال تكون مؤقتة ضمن خطّة المركز، لأن الأخير يسعى بالدرجة الأولى إلى لمّ شمل الأطفال مع عوائلهم الأصلية أو الممتدة (ذات قرابة) وتمكينها اقتصادياً، أو إيجاد عوائل بديلة ترعاهم، على خلاف فكرة “دار الأيتام”.
كيف يصل الأطفال؟
وتقول إدارة المركز، إنها اجتهدت في تكثيف حلقات التواصل مع مختلف فئات المجتمع من شبكات ومنظمات وجمعيات ومراكز مجتمعية، وصولاً إلى إدارات المخيمات والجهات الرسمية، من أجل الوصول إلى شرائح مختلفة من الأطفال المحتاجين للرعاية.
يشير المشرف في المركز يونس أبو أمين، إلى أنّ الأطفال المقبولين يصلون إلى “بيت الطفل” عبر رصدٍ ميداني أو بالتنسيق مع منظمات وجمعيات إنسانية أخرى وأفراد من المجتمع والمجالس المحلية ومدراء المخيمات، مبيناً أن إدارة المركز تنظم جلسات وزيارات ميدانية دورية كما تعمم أرقام تواصل مع مختلف الجهات على الأرض.
واستقبل المركز منذ تأسيسه 161 طفلاً تراوحت أعمارهم من يوم واحد حتى 16 عاماً، و تمّ تأمين 67 حالةً بعد عملية لم شم الأطفال مع عوائل أصلية أو بديلة، وتقديم كافة الاحتياجات.
حديثي الولادة
لعل أكثر فئة لها خصوصية وحساسية اجتماعية، هم مجهولو النسب (حديثو الولادة)، بعد تخلي ذويهم عنهم، وهي ظاهرة تزايدت في منطقة شمال غربي سورية خلال السنتين الماضيتين، بعد تسجيل حالات عثور كثيرة على أطفال حديثي الولادة مرميين على أبواب المساجد وفي الأماكن العامة.
وفي وقتٍ تغيب فيه إحصائيات دقيقة لأعداد هؤلاء الأطفال، يقول المركز إنه استقبل حوالي 11 طفلاً تترواح أعمارهم من يوم واحد حتى 5 سنوات.
خدمات المركز
يقدم المركز كافة احتياجات الطفل بدءاً من المسكن إلى الطعام والشراب بنظام مُنتظم من قبل مربّيات، فضلاً عن نظامَي تعليم خارجي في المدرسة وآخر داخلي يتابع دروس المدرسة من قبل مدرسين مختصين.
ويشرح يونس أبو أمين النظام اليومي للعمل في المركز، و الذي يبدأ من استيقاظ الأطفال صباحاً وتناول وجبة الإفطار، ثم الذهاب إلى للمدرسة والعودة، وفاصل من أجل الراحة ومن ثمّ تناول وجبة الغداء وبعدها الدراسة الداخلية بهدف متابعة دروس المدرسة.
“العدائية”
يعتبر الجانب النفسي هو المسألة الشائكة في التعاطي مع هذه الفئة من الأطفال، نظراً لما مرّوا به من عوارض ومطبّات أثرت سلباً على التركيبة النفسية، وفي بعض الأحوال وصلت حدّ الحُطام.
لينا العموري، مسؤولة الدعم النفسي في المركز، تنهمك لساعات طويلةٍ خلال عملها بين الأطفال في حل مشاكلهم وإقامة جلسات التفريغ التي تساهم في تحقيق حالة توزان نفسيّ لديهم، فضلاً عن نشاطات ترفيهية.
تقول لـ”السورية.نت” إنّ “الأطفال يخضعون لاختبار أولي حين وصولهم للمركز، وعلى أساسه نضع خطة للتعامل مع الطفل”.
وتعتبر أنّ الأطفال يعانون من اضطرابات سلوكية وتصرفات عدائية، نتيجة الخلفية الاجتماعية التي جاؤوا منها أو الظرف العام، وخاصةً في المرحلة الأولى من وصولهم.
في هذا السياق، توضح مربياتٌ في المركز، أن عملية التعامل مع الأطفال الرضّع أسهل وأكثر مرونةً على اعتبارهم “صفحة بيضاء”، على خلاف الآخرين الذين تتنوع طبائعهم بين المزاجي والعدائي والمضطرب، نتيجة الظرف النفسي الخاص لكل واحدٍ منهم، وهو ما يسعين من أجل ترميمه والوصول إلى حالة التأقلم لدى الأطفال.
التسرّب المدرسي
تؤكد إحصائية حديثة لـ”مديرية التربية والتعليم في إدلب” وصلت نسخة منها لـ”السورية.نت”، أنّ حوالي 130 ألفاً و300 طالب وطالبة متسربين عن التعليم في مدارس المحافظة.
وأشار تقرير مسحي سابق لـ”مديرية إدلب” إلى أنّ في مقدمة الأسباب المساهمة في التسرّب المدرسي هي افتقار العائلة إلى دخل شهري، وتأتي عمالة الأطفال في المرتبة الثانية، في حين يحل بُعد السكن عن المدرسة والوضع الأمني السيئ، في المرتبتين الثالثة والرابعة على التوالي.