في آخر تصريح له قبل انتهاء مهمته بخصوص توقعاته حول سياسة بلاده إزاء سوريا عقب الانتخابات الرئاسية بين المرشحين الديمقراطي جو بايدن والجمهوري دونالد ترامب، استبعد المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا السفير جيمس جيفري أن يكون لنتائج الانتخابات أي تأثير على وجود بلاده العسكري في سوريا، بغض النظر عن المرشح الفائز.
لا يتوقع جيفري حدوث أي تغير في نقاط تمركز الوحدات العسكرية الأميركية في سوريا، ولا في العقوبات المفروضة على نظام الأسد ولا في إرادة واشنطن طرد إيران من سوريا، كما توقع زيادة العقوبات المفروضة على النظام مؤكداً أنها حققت نجاحاً، وطمأن المعارضة أن سياسة واشنطن لن تتغير في سوريا بغض النظر عن القادم الجديد للبيت الأبيض، الموقف القائم على أن الحل السياسي يعكس الأهمية المطلقة لما ورد في القرار 2254 بصرف النظر عمن سيفوز بالانتخابات.
والواقع فإنه من خلال متابعة مواقف الولايات المتحدة الأميركية على مدار عقد من الزمن تعاقب خلالها اثنان من الرؤساء، الديمقراطي باراك أوباما والجمهوري دونالد ترامب، لم يكن هناك فرق كبير بما يخص التعامل مع الملف السوري إدارته.
أميركا دولة مؤسسات وتسير وفق استراتيجيات ترسمها هذه المؤسسات ومراكز الدراسات والأبحاث بما يتماشى مع مصالحها في المنطقة، والحفاظ على أمن وتفوق إسرائيل سياسياً وعسكرياً، وهي نقطة لها التأثير الأكبر على سياسة واشنطن ولعلها كانت العامل الأساس في التمسك برأس النظام حتى الآن، والاختلاف في سياسات الرؤساء هو اختلاف في الوسائل والتكتيكات وليس في الهدف البعيد. فقد كانت استراتيجية أميركا في سوريا منذ عهد أوباما، وبقيت كذلك في عهد ترامب، قائمة على إدارة الأزمة لا حلها، واستنزاف جميع الأطراف دون تمكين أي منهم من تحقيق الانتصار، وإغراق الجميع في المستنقع السوري.
لقد شهدت المواقف الأميركية تجاه الأزمة السورية منذ عام 2011 تحولات عديدة، سواء في عهد أوباما أو ترامب، وذلك تبعا لمصالح واشنطن والتحولات السياسية والعسكرية.
فرغم إعلان الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما مراراً أن الولايات المتحدة ستتحرك في حال تجاوزت دمشق الخط الأحمر المتمثل باستخدام السلاح الكيماوي، فإنه تراجع في اللحظة الأخيرة عن توجيه ضربة عسكرية للنظام بعد استخدامه السلاح الكيماوي ضد المدنيين في الغوطة الشرقية في شهر آب 2013، واكتفى وقتها بمصادرة أداة الجريمة والقبول بصفقة مع الروس تنص على تدمير ترسانة النظام من الأسلحة الكيماوية وترك المجرم حراً طليقاً دون عقاب!
كان واضحا منذ البداية أنه لم يكن لدى باراك أوباما أي نية لإضعاف النظام أو الضغط على الأسد لإجباره على التنحي أو القبول بالحل السياسي.
فالعقوبات المالية التي فرضتها إدارته على بشار الأسد وعدد من المسؤولين السياسيين والأمنيين في نظامه، كانت عقوبات فردية ذات قيمة معنوية لم تعن الكثير بالنسبة للنظام عملياً.
وهنا لابد من التوقف عند مواقف وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون ونشاط السفير روبرت فورد وتواصلاته المستمرة مع المعارضة السورية، بالمقابل تجاهل أوباما لمقترحاتهم بتقديم الدعم للمعارضة السياسية والعسكرية، ورفع الحظر عن تزويدها بالسلاح !
وكان رفض البيت الأبيض توصيات وزارتي الخارجية والدفاع، وكذلك الاستخبارات بتسليح مقاتلي المعارضة السورية وتدريبهم دليل على رفض أوباما ترجيح كفة المعارضة السورية بما يؤدي الى حسم الصراع عسكريا.
بالمقابل تغاضى أوباما عن دخول إيران وحزب الله الحرب إلى جانب النظام بشكل مباشر، مع بعض الدعم الخجول لفصائل الثوار بالمال والتدريب وبعض السلاح، من خلال برنامج تدريب وتسليح المعارضة المعتدلة الذي كانت ترعاه المخابرات المركزية CIA من خلال غرفتي العمليات (الموم) و (الموك).
في حين كانت سياسة ترامب عدم التورط في النزاع السوري، فما كاد يمضي على تسلمه الرئاسة ستة أشهر حتى أمر بوقف كل أشكال الدعم عن المعارضة السورية المسلحة، والإبقاء فقط على الدعم المقدم لقوات سوريا الديمقراطية “قسد”.
لقد أصبح التعاون مع روسيا نقطة أساسية في استراتيجية الرئيس ترامب إزاء سوريا، فهو يرى أن الحل في سوريا يكمن في الأيدي الروسية، لذا جاء قراره وقف تسليح المعارضة عقب اجتماع عقده في هامبورغ الألمانية مع بوتين على هامش قمة العشرين بمثابة تخلي عن الشعب السوري وإطلاق يد روسيا لمساندة النظام في القضاء على فصائل الثورة وتمكينه من استعادة كامل المناطق الخارجة عن سيطرته عدا مناطق سيطرة قسد.
لقد اعتبر ترامب تنازله عن دعم الثوار لصالح روسيا ونظام الأسد وإيران الحل الوحيد لإلقاء العبء عن كاهل أميركا، مقتنعاً أن استمرار نظام الأسد سيساعد في القضاء على داعش، وأن روسيا ستجد الحل مع النظام لاحقاً، ما أسفر عن سقوط معظم مناطق سيطرة المعارضة في عهده.
وعقب استخدام النظام للسلاح الكيماوي ضد المدنيين في خان شيخون وبعدها في مدينة دوما متجاوزاً مرة أخرى كل الخطوط الحمراء التي رسمها له ترامب ومن قبل سلفه أوباما، تمخض تهديد ووعيد الرئيس الأميركي بضربات استعراضية محدودة لم تتجاوز حدود حفظ ماء الوجه، ولم يكن لها أي تأثير على الصعيدين العسكري والسياسي للنظام، إذ واصلت قواته التقدم في معظم الجبهات واستعادة آلاف الكيلومترات، فهذه الضربات أظهرت للأسد وحلفائه أن إدارة ترامب لا تعتزم تغيير النظام أو الوصول إلى حد المواجهة مع إيران و روسيا، وأنه ليس لديها استراتيجية قد تؤدي إلى إنهاء الحرب.
وكانت المفاجئة غير المتوقعة بتخلي ترامب عن الجنوب السوري القريب من حدود إسرائيل وخذلان الفصائل العسكرية التي تعدها معتدلة، ففي شهر تموز 2018 وبينما دخلت روسيا وبضوء أخضر من إدارة ترامب بقوة على جبهة محافظة درعا، أرسلت واشنطن لفصائل الثوار رسالة تبلغهم تخليها عن دعمهم لقاء تفاهمات ثلاثية مع روسيا وإسرائيل.
كان واضحاً أن أميركا غيرت أولوياتها في سوريا ولم يعد لاستمرار الأسد أوسقوطه أي أهمية، وكان جل اهتمام الإدارة الأميركية منصباً على دعم قوات سوريا الديمقراطية في مواجهة تنظيم داعش.
ما أكد هذه الحقيقة تصريح وزير الخارجية تيرلسون في مارس 2017 أن مصير الأسد يقرره الشعب السوري، وقول السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي أن بلادها غيرت أولوياتها بسوريا ولم تعد تركز على إخراج الأسد من السلطة.
واستمر تهاوي المناطق بشكل متسارع تحت ضربات الروس والنظام والإيرانيين، وكل هذا الانحسار لقوات المعارضة والتراجع في العملية السياسية كان في عهد الرئيس ترامب الذي اكتفى بتكثيف العقوبات الاقتصادية، وكان أهمها قانون قيصر الذي كان الهدف منه، من بين بقية الأهداف، منع انتهاك حقوق الإنسان التي يمارسها النظام، ودفعه للمشاركة من جديد في العملية السياسية بموجب القرار 2254 الذي قفز الروس والنظام على أهم بنوده الأساسية وهي إطلاق سراح المعتقلين وتشكيل هيئة حكم انتقالي، واكتفوا بحصر العملية التفاوضية بتشكيل لجنة صياغة الدستور لكسب الوقت إلى حين موعد الانتخابات الرئاسية السورية في تموز المقبل.
والسؤال الآن، هل يواصل الرئيس المنتخب جو بايدن من النقطة التي انتهى إليها ترامب فيما يتعلق بالملف السوري ويستمر بتطبيق قانون قيصر لمنع تعويم الأسد وإعادة الإعمار بدون حل سياسي؟
إن استمرار السياسة الأميركية التي انتهجتها إدارة ترامب في الملف السوري كما عبر عنها المبعوث المستقيل جيمس جيفري ربما غير قابلة للتغيير بشكل جوهري على الأقل خلال النصف الأول من العام المقبل 2021 وهي الفترة التي تعول عليها موسكو لتحقيق اختراقات في ملف إعادة الإعمار وعودة اللاجئين وبدء حصد نتائج انتصاراتها العسكرية.
والسؤال الأهم بعد استعراض كل هذه الخدمات الكبيرة التي قدمتها إدارتا أوباما وترامب لنظام الأسد، هل كان تطمين السيد جيفري الأخير هو تطمين للمعارضة بالفعل أم تطمين لبشار الأسد، وهل سيكون عهد بايدن هو عهد إسدال الستار على تلك الاستراتيجية والذهاب نحو استراتيجية جديدة في سوريا؟.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت