في موازاة الخلاف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا، يبرز تصريح لافت للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش حول المصالح الاستراتيجية المتطابقة لأميركا وروسيا في سوريا. إنه النموذج الأوضح عن ولادة مسار جديد في العلاقات الدولية والذي يمكن اعتباره قائماً على مبدأ مركب ومعقد بين القوى والدول وداخل التحالفات.
بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا صراع تاريخي مثقل بالحروب الساخنة والباردة، لكن الطرفين يلتقيان على مصلحة واحدة في سوريا، تفتيت الدولة السورية، أمن إسرائيل، حفظ مصالحهما الاستراتيجية التي تتقاطع، والسماح الأميركي بالسيطرة الروسية على الأراضي السورية والمرافئ والموانئ في إطار سياسة أميركية أوسع تتعلق بمواجهة الصين، وتقوم على مبدأ الانسحاب الأميركي من منطقة الشرق الأوسط لصالح الاهتمام في مناطق أخرى وتحديداً في المحيط الهادئ.
ويقود الانسحاب الأميركي من المنطقة إلى بروز أدوار أوسع لقوى إقليمية ذات المشاريع الواضحة، إسرائيل، إيران، تركيا، وفي ظل الانكفاء الخليجي عن التأثير ولعب دور مباشر في المنطقة، تسعى مصر والأردن بتنسيق مع واشنطن إلى التقدم نحو الملعب، والمدخل لذلك كان في اتفاقيات ثلاثية تجمع الدولتين مع العراق، وحالياً الدور الذي تلعبانه بما يتعلق بتطبيع العلاقات مع النظام السوري وإنجاز اتفاقيات إيصال الغاز المصري والكهرباء الأردنية إلى لبنان عبر الأراضي السورية بموافقة أميركية.
إلى جانب هذا المسار، يستمر التقاطع الأميركي الروسي الإسرائيلي في سوريا، وهنا لا بد من تسجيل جملة نقاط، بعد أيام على عقد الإجتماع الرباعي في عمان، حطّ رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت في مصر للقاء الرئيس عبد الفتاح السيسي. على مقلب آخر حطّ بشار الأسد في زيارة عاجلة إلى موسكو بعد ساعات من زيارة أجراها وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد، ثمة قاسم مشترك بين الحركة الإسرائيلية، والحركة المصرية الروسية مع النظام السوري.
كل ذلك يقود إلى خلاصة واحدة وهي أن منطقة الشرق الأوسط كانت مسرحاً لاختبار العلاقات الدولية الجديدة وآلية إعادة تركيبها على قواعد جيوستراتيجية مختلفة عمّا كان عليه الوضع سابقاً. فكل التواطؤ الذي أقدمت عليه القوى الإقليمية والدولية لصالح الأميركيين والإسرائيليين على حساب سوريا وتفتيتها وتهجير أهلها، تعود -هذه القوى- إلى دفع أثمان باهظة، منذ الانسحاب الأميركي من أفغانستان، إلى الأزمة المستجدة بين أميركا وبريطانيا وأستراليا من جهة، وفرنسا من جهة أخرى.
من يطّلع على تصريحات مسؤولي هذه البلاد المختلفة بين بعضها البعض لا بد أن يستنتج حجم الأزمة القائمة والتي ستستمر. أن يصل الأمر بوزير خارجية فرنسا إلى اتهام أميركا بالكذب والطعن بالظهر، وأن يصل به الأمر إلى وصف بريطانيا بأنها انتهازية، فهو طور جديد في العلاقات بين هذه الدول لا بد له وأن يعيد إحياء النقاشات ونبش تاريخ العلاقات غير المكشوفة بين هذه الدول وتحديداً في الحربين العالميتين الأولى والثانية، إذ إن التظهير السائد لتلك العلاقات كان قائماً على تركيز منطق التحالف في حين الحقيقة كانت مختلفة جذرياً، وعلى الرغم من أن منطقة الشرق الأوسط كلها تعيش على إيقاع ما أرسته اتفاقية سايكس بيكو، والتي تتخذ عنواناً للتحالف المتين البريطاني الفرنسي، هي في واقع الحال، حقيقته مغايرة كلياً، ونتجت بعد صراعات عميقة ومديدة كان الأميركيون أصحاب الدور الأبرز فيها، مع فارق أن تلك الفترة شهدت التقاء فرنسياً أميركياً على ضرب بريطانيا، لأن الولايات المتحدة الأميركية كانت تريد إضعاف بريطانيا لصالح مشروعها التوسعي، وهو ما تجلى في النظام العالمي الذي أرسته واشنطن بعد الحرب العالمية الثانية.
ينشأ التحالف الجديد بين أميركا، بريطانيا، أستراليا لأهداف استراتيجية تتعلق بالصين ومحاولة تطويقها. لكنه تحالف قابل للانعكاس سلباً على أوروبا ووضعها الاتحادي، وهي أزمة عميقة تهدد الاتحاد كانت قد بدأت معالمها مع قرار بريكست البريطاني، وتنامت أكثر في أعقاب أزمة كورونا. ستنعكس الأزمة الأميركية الفرنسية على التطورات في المنطقة، والتي تسير نحو مزيد من تكريس مبدأ “تصغير الكيانات”.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت