لا يبدو أن نظام الأسد مهتم بالأصوات الانتخابية للاجئين والمغتربين السوريين في الخارج. لكنه مهتمٌ للغاية، بدولاراتهم. أما أصواتهم “الانتخابية”، فهو يريد تقليصها، كما يشير التوجيه الحكومي بعدم تمكين من خرج بصورة غير شرعية من البلاد، من ممارسة “حقه الانتخابي”. وهذا التوجيه من جانب النظام، لا يأتي خشيةً من أن يتعرض لـ “هزة انتخابية” إذا صوّت عدد كبير من المناوئين له بالخارج. فالجميع يعلم أن “الانتخابات” القادمة في سوريا، مسرحية، يتم الإعداد لها لأسباب “سيكولوجية” موجهة للسوريين أنفسهم، وسياسية موجهة للقوى الخارجية المعنية بالشأن السوري. أما التوجيه المشار إليه، فلا يعدو كونه رسالة لمن يهمه الأمر، بأن “دولة الأسد”، ستبقى هي الجلّاد والحَكَم في آن، وأن من فرّ من طغيانها، بصورة غير شرعية، حتى لو كان ذلك بغية النجاة بحياته، لا يستحق نيل “شرف” المشاركة بـمسرحية “الانتخابات” التي يتم الترتيب لها. إنه جانب من الغاية السيكولوجية المرتبطة بهذه “الانتخابات”، وهي تأكيد سطوة النظام على السوريين، في الداخل والخارج أيضاً، بوصفه يمثّل “شرعية الدولة” ويحتكر سطوتها القانونية.
ومما يؤكد عدم اهتمام نظام الأسد بالأصوات الانتخابية لمن هم في الخارج، تلك السابقة التي حدثت عام 2014، حينما أعلنت وزارة خارجية النظام، وبكل شفافية، أن عدد من شارك في “الانتخابات الرئاسية” حينها، خارج سوريا، كانوا حوالي 200 ألف سوريّ فقط، وذلك من أصل نحو 7 ملايين لاجئ سوريّ يتمتع نصفهم تقريباً بحق التصويت. أي أن حوالي 6% فقط، ممن كان يحق لهم التصويت، خارج سوريا، شاركوا يومها في “الانتخابات”. وأعلن النظام حينها، الأمر، على الملأ. في حالة جليّة من اللامبالاة. وهو ما سيتكرر هذه المرة أيضاً.
أما حينما نتحدث عن “دولارات” سوريي الخارج، يختلف موقف النظام. فهو يرحب بها بحرارة. سواء عبر الحوالات المرسلة الى سوريي الداخل، أو عبر المعاملات واستصدار الأوراق والوثائق القانونية التي يضطر السوريون للحصول عليها في سفارات بلادهم بالخارج، والتي تشكل مورداً مهماً من موارد القطع الأجنبي، الذي يدخل خزينة نظام الأسد، بشكل دوري. وبهذا الصدد يمكن الإشارة إلى آخر إحصائية على هذا الصعيد، حينما ذكرت وزارة داخلية النظام، في تصريح رسمي، أن إيرادات استصدار جوازات السفر، فقط، بلغت حتى نهاية الربع الثالث من عام 2020، حوالي 22 مليون دولار أمريكي.
لكن الكنز الأكثر أهمية، هو حوالات السوريين في الخارج، التي شكلت طوق نجاة لليرة الغارقة، مؤخراً، حينما أعاد النظام توجيه قنوات دخول تلك الحوالات إلى مكاتب وشركات الصرافة المرخصة، المتعاملة معه، عبر رفع “دولار الحوالات” إلى 2500 ليرة، وإتاحة المجال لتلك المكاتب، كي تشتري “دولار الحوالات” بأرقام أكبر من ذلك، بضوء أخضر منه. وهكذا عاد ذلك الشريان المهم ليصب في خزينة النظام مجدداً، بمعدل 10 ملايين دولار أمريكي، يومياً، خلال شهر رمضان الجاري، حسب تقديرات خبراء.
وحالما خرجت الليرة السورية من مستنقع انهيارها الأخير، وسجلت سعراً غير مسبوق منذ طرح ورقة الـ 5000 الجديدة، قبل ثلاثة أشهر، أعلن النظام أن “رئيسه” تقدم بطلب ترشيحه لرئاسة الجمهورية في “الانتخابات” القادمة. وبذلك يكون الأسد قد عوّم نفسه مجدداً، لكن هذه المرة، باستخدام “دولارات” سوريي الخارج، الذين هجّر غالبيتهم، ومنع جزءاً كبيراً منهم من المشاركة في مسرحية “انتخابه”.
لكن أحد الأسئلة التي تستحق الوقوف عندها، والتي تُطرح للنقاش في أوساط السوريين هذه الأيام، هل يحتاج الأسد حقاً إلى “انتصار اقتصادي”، من قبيل تحسن سعر الصرف، كي يُقدم على عملية “انتخابية” يعلم الجميع، بمن فيهم أنصاره، أنها محسومة مُسبقاً؟
الجواب ببساطة يرتبط بما يُعرف بـ “صناعة الصورة الذهنية” للديكتاتور. فالأسد كان بحاجة ملحة لترميم هذه الصورة في أوساط أنصاره، بعد الانهيار المعيشي غير المسبوق الذي انحدرت إليه أوضاع غالبية السوريين في مناطق سيطرته. وأكثر ما يعني الأسد، بهذا الصدد، حاضنته، تلك التي نازعه الزعامة المطلقة عليها، منذ مدة قصيرة، ابن خاله، رامي مخلوف، قبل أن يختفي –لأسابيع- عن المشهد. وكان رامي يضرب على الوتر الاقتصادي. وكما هو معلوم، فالديكتاتور لا يعمل نيابةً عن أكثرية مواطنيه، بل يعمل لصالح حفنة محدودة من الشعب، تلك التي تشكل مصدر دعمه وقوته القسرية في الجيش والأمن. وحينما ترتفع كلفة دعم الديكتاتور، على داعميه، يصبح احتمال انقلاب أولئك الداعمين عليه، أمراً وارداً. ورغم ضآلة تلك الاحتمالية في حالة الحاضنة الشعبية للأسد الممثلة بصورة رئيسية في الطائفة العلوية، فمن الطبيعي أن تكون ذلك الاحتمال، هاجساً نال من تفكير الأسد في الأشهر القليلة الفائتة. وإلا، فكيف نفسّر الإعلان عن إصابة الأسد وزوجته بـ “كورونا”، وهي تقنية معروفة من تقنيات الدعاية السياسية، عبر توظيف المرض، واستخدام المآساة الشخصية في كسب التعاطف ولفت الأنظار، وتدعيم الصورة الذهنية للديكتاتور، بأنه قريب من الشعب، ويعيش كواحدٍ منهم، ويجري عليه، ما يجري عليهم.
وكما تم توظيف مرض الأسد المزعوم، وقبله، الوعكة العابرة التي ألمت به في خطابه أمام مجلس الشعب في الصيف الفائت، تم توظيف الهبوط بسعر صرف الدولار من حدود 4800 ليرة إلى أقل من 3000 ليرة، بوصفه إنجازاً للأسد، تم بإدارة وتوجيه ومتابعة شخصية منه، وفق ما دأبت على الترويج له وسائل إعلام النظام، خلال الأيام القليلة الفائتة. بينما الحقيقة، أن حوالات مهجّري سوريا ومغتربيها، هي التي أعادت تعويم الليرة، والأسد معاً. وهذا التعويم مؤقت، وهذا ما يتضح من مواقف التجار في السوق السورية، الذين يرفضون الهبوط بأسعار سلعهم، مشيرين في أكثر من حديث صريح، مع بعضهم، إلى أنهم يرجحون بشدة، ارتفاع الدولار بصورة كبيرة، حالما تنتهي مسرحية “انتخابات” الأسد. وحينها، سيلجأ النظام إلى الحديث عن المؤامرة الخارجية “الحاقدة” على “التفاف” الشعب من حول الأسد، و”تصويت” غالبيتهم لصالحه، بوصفها السبب في التدهور المرتقب لليرة السورية.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت