منذ تبنّي التحالف الدولي لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) دعم الجماعات الكردية، من تنظيمات مرتبطة بحزب العمال الكردستاني (تصنفه أنقرة إرهابياً) وغيرها، وطرح مشاريع انفصالية كردية أو حكم ذاتي، باتت السياسات التركية في سورية رهينة تحقيق أمنها القومي من الخطر الكردي. لذلك سارعت أنقرة إلى مصالحة موسكو بعد قطيعة حادثة إسقاط تركيا المقاتلة الروسية سوخوي 24 في 2015، وشكّل الطرفان برفقة إيران، في 2017، مسار أستانة، الذي حقق، عبر اتفاقات خفض التصعيد والمصالحة وانسحابات المعارضة، وبالتدريج، مكاسب للطرفين؛ إذ ضمنت روسيا تهجين الفصائل المعارضة وتبعيتها لتركيا، وسيطرت الأخيرة على شرائط وجيوب شمال سورية، منها غرب الفرات ومنها شرقه، لإبعاد الخطر الكردي عن حدودها الجنوبية. ومنذ بداية الثورة السورية، كان الموقف التركي معادياً للنظام السوري، وقدّمت حكومة حزب العدالة والتنمية الدعم للفصائل الإسلامية، والاحتضان لنشاط المعارضة السياسية، والملجأ لقرابة أربعة ملايين مهجّرين من الداخل السوري.
يحتاج الرئيس التركي، أردوغان، إلى عملية عسكرية جديدة في الشمال السوري، لتنفيذ وعده بإعادة مليون سوري إلى هذه المنطقة. هناك رفض أميركي لأي توسّع تركي شرق الفرات، ورفض بدرجة أقلّ في منبج بريف حلب، ولن يُقدم الأتراك على خطوةٍ يمكن أن تُغضب واشنطن، والكونغرس الذي يماطل في صفقة بيع الطائرات إف 16 لتركيا. وبذلك تركز الاهتمام التركي على السيطرة على تل رفعت. رفضت إيران في قمّة الضامنين الثلاثة في طهران، الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، العملية العسكرية في تل رفعت، بسبب تداخلها ببلدتي نبل والزهراء الشيعيتين المهمتين لطهران، بينما تفضّل روسيا استغلال الحاجة التركية لتحقيق إنجاز عسكري في الشمال، في الضغط على قوات سورية الديمقراطية (قسد)، وتحاول صياغة “تخريجة” من دون تصادم بين النظام والمليشيات الداعمة له من جهة، والجيش التركي والفصائل الموالية له من جهة أخرى. ويبدو أن ما أنجز في قمّة طهران لا يتعدّى التوافق بين الزعماء الثلاثة على إضعاف “قسد”، عبر السماح للطائرات التركية باصطياد قيادات بارزة في “قسد”، في الوقت الذي تُجري فيه روسيا مناورات عسكرية بين النظام و”قسد”، لإظهار تفوّق النظام العسكري.
لم تستطع تركيا تجاوز الموقف الإيراني المتشدّد في رفضه العملية العسكرية في تل رفعت، بتوافق ثنائي مع روسيا في قمة سوتشي أخيراً بين الرئيسين بوتين وأردوغان. تريد روسيا صيغةً تعيد سيطرة النظام على الحدود مع تركيا، وتجبر الأخيرة على تقديم تنازلاتٍ للنظام، وتأخذ بالمخاوف الأمنية التركية بإبعاد جماعات “قسد” عن الحدود التركية، وتتمسّك موسكو باتفاقية أضنة بين تركيا والنظام لعام 1998، التي تسمح لتركيا بالتوغل في عمق الأراضي السورية مسافة خمسة كيلومترات، بينما تطالب تركيا بما لا يقلّ عن عمق 30 كيلومتراً. لكن تصريحات وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، بعد القمة، عن استعداد بلاده لتقديم الدعم السياسي للنظام السوري في محاربة الإرهابيين (من عناصر حزب العمال الكردستاني)، توحي بأن نقاشاً قد جرى بين موسكو وأنقرة بشأن صيغة جديدة، وهذا يفتح الباب أمام التوافق مستقبلاً على اتفاقية أضنة 2. ما يعني أن موسكو نجحت، خلال قمة سوتشي، في تجميد العملية العسكرية التركية، حتى اللحظة؛ في حين أن تركيز القمة كان على إنجاز توافقاتٍ مهمة للطرفين، تتعلق بالتبادل التجاري والطاقة النووية التي ترغب تركيا في بنائها بمساعدة موسكو، وإمكانية حصول روسيا على مسيّرات تركية، واستمرار حصول تركيا على الغاز الروسي (يلبي نصف احتياجها) وبأسعار مخفّضة، وإبعادها عن شبح أزمة الطاقة التي تجتاح العالم، وإنجاز صفقة تمرير الحبوب الأوكرانية إلى العالم. تحاول تركيا اتخاذ موقفٍ محايدٍ من الحرب في أوكرانيا بين روسيا والغرب؛ ورغم أنها عضو في حلف الناتو، إلا أنها أوقفت إرسال طائراتها (بيرقدار) إلى أوكرانيا، وهي، من خلال عقد صفقاتٍ تجاريةٍ مع موسكو، تساهم في فكّ عزلة بوتين الدولية، وتوجّه رسائل إلى الغرب والولايات المتحدة بشأن ملفاتٍ عديدة، منها العقوبات ودعم المعارضين الأتراك، وصفقات السلاح، وعدم التزام دول “الناتو” بحماية أمن تركيا، ومخاوف من دعم أميركي لحكم ذاتي شرق الفرات، وشعور تركي بأن الاستراتيجية الأميركية في المنطقة تستبعد تركيا، كما تفعل مع إيران.
ليس في استراتيجية الولايات المتحدة البقاء في سورية لأجل طويل؛ لكنها باقية بحجّة محاربة فلول “داعش” ومنع التوغل الإيراني. الواقع أنها باقية، لأنها تريد إدارة اللعبة السورية بين الدول المتدخلة، وهي تفعل ذلك بالتأكيد؛ فهي تمنع النظام وروسيا من الاستفادة من آبار النفط شرق الفرات، ومسار أستانة في 2017 بدأ بحضور أميركي بصفة مراقب، وكل الصفقات الروسية التركية في سورية كانت بموافقة أميركية، ودعمت واشنطن الرد التركي على قتل النظام 33 جندياً تركياً في إدلب في فبراير/ شباط 2020، بعد توغل النظام بمساعدة حلفائه في إدلب، وجرى إيقاف العملية باتفاقية آذار 2020، وسمحت بالسيطرة التركية على منطقة نبع السلام شرق الفرات. هذا يعني أن أي توافق جديد بين روسيا وتركيا في سورية سيمرّ عبر موافقة أميركية؛ ولا ترغب واشنطن بأي خلط جديد للأوراق من روسيا، على صعيد خرائط السيطرة وتمكين أكبر للنظام ومليشيات إيران في الشمال، أو على صعيد تطبيع أنقرة مع دمشق، وتحريك ملف الحل السياسي باتجاه رؤية موسكو لهذا الحل، مع استمرار تعطيل المسارات السياسية.
وهذا يعني أنّ لا توافقات ثنائية روسية تركية مكتملة بشأن سورية، بل بحثٌ في بعض التفاصيل، ومحاولة فتح بعض الأبواب المغلقة؛ لأن التوافقات الكبرى مرتبطة بالتوصل إلى حل سياسي للملف السوري، وهو ما زال مستبعداً في ظل التباعد الروسي الأميركي بسبب الأزمة في أوكرانيا. والممكن الآن أن تسمح روسيا بعملية عسكرية تركية محدودة في تل رفعت، وربما من دون قتال يذكر، تحفظ ماء وجه أردوغان، قبل الانتخابات التركية العام المقبل، في مقابل سيطرة موسكو على جبل الزاوية وفتح الطريق الدولي إم 4، أو ربما مقابلٌ تقدّمه تركيا لروسيا في الملف الأوكراني.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت