العلاقة بين الأرض (الوطن) والإنسان (المواطن) ليست علاقة باتجاه واحد، كما تحاول ترويج ذلك الأنظمة الشمولية بصورة عامة، وفي مقدمتها الأنظمة الديكتاتورية، فهذه الأنظمة تحاول فرض شعار تحرير الأرض قبل أي مهمة سياسية أو اجتماعية أخرى. وهذا ظهر في أكثر من نظام سياسي شمولي، إذ بحجة تحرير الأرض، يتمّ لجم حقوق الإنسان وحرياته، وحقه، في تغيير شروط حياته السياسية والاقتصادية.
شعار تحرير الوطن لا يمكن أن يكون صحيحاً بدون أن يكون الإنسان المعني به حرّاً، فكيف لإنسان منتهك الحقوق أن يقاتل ويحرّر وطنه المحتل؟، هذه كذبة تروّجها الأنظمة المستبدة وغير الشرعية، أي الأنظمة (لتي لم تأت بانتخابات حرّة شفافة)، والغاية من ذلك، استخدام حجة تحرير أراضي الوطن المحتلة، لتستمر في الهيمنة على القرار السياسي والاقتصادي والثقافي في البلاد، إذ تلجأ هذه الأنظمة إلى رفع شعارٍ مخاتلٍ هو “كل شيء من أجل تحرير الأرض المحتلة”.
الأنظمة المستبدة ترفض جدلية (حرية الوطن من حرية الانسان)، فهي لو عملت بها ما كانت لتبقى في السلطة، على اعتبار أنها أصلاً لم تعتل السلطة شرعيّاً، أي عبر صندوق انتخاب حقيقي، وإنما اعتلتها عبر انقلاب عسكري، أي عبر اغتصاب السلطة بالقوّة، ولكل تديم هذا الاغتصاب اخترعت فكرة (كلّ شيء للمعركة).
رفضُ الأنظمة والسلطات المستبدة لجدلية (حرية الوطن من حرية الانسان) دفعها إلى جعل مرتكزات الحياة في البلاد في خدمة شعارها تحرير الأراضي المحتلة أولاً، وهذا يعني تحويل مقدرات الشعب السياسية والاقتصادية والثقافية لصالح خدمة شعارها، والذي يخفي طمعها باستمرار اغتصابها للسلطة.
في الجانب السياسي ذهبت الأنظمة المستبدة إلى مصادرة الحريات السياسية، ومنعت تشكيل أي أطرٍ سياسية خارج هيمنتها وسلطتها، واعتبرت أن كل نشاطٍ سياسي يختلف في رؤاه مع مقولاتها حول تحرير الأراضي المحتلة هو انتهاك وتهديد للأمن القومي، وهو يُضعف من هيبة الدولة ويهدّد وجودها، وهذا تضليل متعمد لحقيقة أن تحرير الأرض المحتلة يخضع بالضرورة لوجود حريات سياسية، فبدون هذه الحريات لا يمكن تسخير مقدرات الشعب بصورة صحيحة تخدم التحرير.
في الجانب الاقتصادي، ترفع الأنظمة المستبدة شعار كل شيء من أجل تحرير الأرض المحتلة، هذا الشعار يخفي خلفه تحويل النشاط الاقتصادي الوطني بمختلف حقوله إلى اقتصاد موجّه تصبّ عوائده وفوائده في استمرار اغتصاب السلطة، دون الانتباه إلى حقيقة أن التنمية الاقتصادية الشاملة تتطلب إطلاق المبادرات الفردية وغير الفردية، وفتح المجال أمام تطور البنى الاجتماعية.
ولفهم الجدلية المعنية سنأخذ مثالين عيانيين، المثال الأول يشمل نظام حكم البعث والأسدين، هذا النظام رفض بحجة تحرير الأرض السورية المحتلة في الجولان أي نشاط سياسي أو اقتصادي خارج هيمنته، ولهذا فصّل دستور عام 1973 على مقاسه، فمن يقرأ هذا الدستور سيتعرّف على المادة الثامنة منه، التي تقول إن حزب البعث العربي الاشتراكي هو قائد الدولة والمجتمع، ويقود جبهة وطنية وتقدمية.
الأسد الأب حصر السلطة بيده عبر المادة الثامنة وغيرها من المواد المعززة لها في دستوره، واعتبر كل نشاطٍ سياسي خارج سيطرته نشاطاً ينتهك الدستور، ويهدّد أمن البلاد، ويقلل من هيبة الدولة، كل ذلك يأتي في سياق بقاء هيمنته على الحكم، مختبئاً خلف ما يدعيه كل شيء لمواجهة العدوان الإسرائيلي، ولتحرير الأراضي المحتلة.
لكنّ نشاط النظام الأسدي في مختلف المجالات كان يثبّت الرؤية التي تقول، إن ما يقوم به من نشاطات اقتصادية واجتماعية وثقافية إنما هي نشاطات لا تخدم تحرير الأرض ولا تصنع تنمية وطنية يستند عليها هذا التحرير.
إن منع النظام الأسدي الشعب السوري في ممارسة حرياته عبر التعبير عن رأيه ببناء بلاده، وعبر حقه في تشكيل أحزابه ومنظمات مجتمعه المدني، إنما يأتي ضد شعاره تحرير الأرض، فهذا التحرير يحتاج شعباً حرّاً مبادراً، لا شعباً محكوماً بالرعب وأجهزة الأمن،
إن سيطرة النظام على الاقتصاد الوطني، غايته ليس توجيه الإمكانات من أجل تحرير الأرض المحتلة، بل من أجل زيادة نهبه ومراكمته للثروات، لاستخدامها لاحقاً في الحفاظ على اغتصابه للسلطة.
المثال العياني الثاني يخصّ حركة حماس وهيئة تحرير الشام، إذ إن الحركتين تنتميان إلى ذهنية شمولية مرجعها الإسلام السياسي، وهما تمنعان كل نشاط مدني وسياسي لا يخضع لسلطتهما وبرنامجهما في الهيمنة على السلطة في مناطق نفوذهما، وهما تريان وتنفذان سياسة تقول إن الأولوية لتحرير الأرض، متغافلتين عن إن تحرير الأرض يحتاج قبل ذلك إلى تحرير الانسان في مناطقهما، وهذا ليس في وارد رؤيتهما وذهنيتهما، إذا أنهما تتبعان سياسة كل شيء لتحرير الأرض دون العمل على توفير شروط هذا التحرير المتعلق أولاً وقبل كل شيء بتحرير الانسان في مناطقهما، من خلال وضع قوانين تسمح بتشكيل رؤى سياسية واقتصادية واجتماعية تسمح بتطور البنى المجتمعية خارج النسق الأيديولوجي الذي يتحكم برؤيتهما.
لهذا يبدو قطّاع غزة وكأنه مختطف سياسياً واقتصادياً لصالح الأيديولوجيا، التي ترتكز عليها حركة حماس، هذه الأيديولوجيا، تريد لي ذراع الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في هذا القطاع، دون وضع قدرات المجتمع في هذا الحيّز الجغرافي موضع التفعيل الذاتي، وتقديم المبادرات لصالح بناء النموذج الوطني المتحرر فعلياً من خلال حرية الانسان فيه.
هذا الاتجاه الحمساوي هو من يدفع حركة حماس إلى البحث عن مصادر تمويل خارجية لها، وهذا ما جعلها تتجه للرضوخ لسياسة إيران التي تقدّم لها المال السياسي، الأمر الذي دفعها لتقديم تنازلات حقيقية تخصّ الدم السوري والفلسطيني، الذي أزهقه النظام الأسدي في المخيمات الفلسطينية كمخيمي اليرموك وفلسطين، بحجة أولوية تحرير الأرض، وكأن الأرض تتحرر بدون تحرير الانسان.
هذا الأمر ينطبق على تحرير الشام التي تحاول من حين إلى آخر توسيع رقعة سيطرتها على الأرض، دون الأخذ بعين الاعتبار منح السكان في محافظة إدلب على حقوقهم في الحريات والمشاركة عبر أحزاب سياسية في طرح برامج تنمية هذه المناطق.
إذاً يمكننا القول، أن لا تحرير للأرض بدون شعب حر ومبادر في كافة الأصعدة، فحرية الانسان على علاقة جدلية بحرية الأوطان، فلا حرية للأوطان في غياب حرية الشعب الذي يحررها، وهذا ما يجب أن تعيه كل مناطق النفوذ خارج سيطرة النظام الأسدي، سواء في شمال شرق سورية حيث تتسلط قوات عابرة للوطنية، أم في شمال سورية حيث لا تزال الحكومة المؤقتة بعيدة عن أداء دورها بوزاراتها المختلفة عن أداء دورها، وخلق حكم مؤقت ينبثق عن انتخابات بما في ذلك المجالس المحلية، وحصر دور الفصائل بالشؤون العسكرية.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت