تُعَبِّر الهوية الوطنية عادةَ عن مجموعة من السمات والخصائص التي تميز الأفراد أو المجتمعات عن غيرها. وتلعب مجموعة من العناصر دوراً مهماً في بناء هذه الهوية مثل الجغرافيا والتاريخ المشترك واللغة والشعور بالانتماء إلى المكان والواجبات والحقوق المشتركة، ومن دون هذه الخصائص تفقد المجتمعات أو الأمم وجودها واستقرارها.
مع التسليم جدلاً بوجود هوية وطنية “قسرية” في سوريا قبل عام 2011، فإن هذه الهوية تعرضت للتشظي بفعل عوامل كثيرة وباتت تتوازعها الانتماءات الضيقة أو الهويات ما دون الوطنية مثل العصبيات المحلية والقبلية والإثنية والطائفية والسلطوية والدينية. كما تأثرت هذه الهوية بشكل عنيف من جراء الحرب وعمليات التهجير القسري، وانعدام التعليم والتسرب من المدارس، والتفكك المجتمعي، والتوترات بين المجتمعات المحلية وقوى الأمر الواقع التي تحاول كل منها رسم هوية الأشخاص الموجودين تحت سيطرتها.
للأسف الشديد غالباً ما نسمع النخب السورية تتحدث عن إعادة بناء الهوية الوطنية السورية بشكل معاصر كهوية جامعة، ويبدو أن هذه النخب منفصلة عن الواقع بشكل لا يُصدق، فهذه الهوية هشة أساساً ولم تكن ضمن أولويات الجهات التي تتابعت على الحكم في سوريا بعد الاستقلال بما فيها حزب البعث الذي حاول بناء هوية وطنية سلطوية أقرب إلى الفاشية العسكرية. في حين عمل الانتداب الفرنسي على منع ظهور أي هوية وطنية جامعة من خلال إنشاء دويلات على أسس طائفية مثل دولة جبل العلويين ودولة جبل الدروز إلى جانب دولتي حلب ودمشق اللتين دُمجتا لاحقاً، إضافة إلى الإشكاليات التي ولَّدها التنافس بين الهويتين الدينية والقومية من جهة، ومحاولات بناء هوية وطنية من جهة أخرى، وهو ما ظهر جلياً في جميع الدساتير التي وضعت بعد الاستقلال بما فيها دستور 1950.
مع ذلك، خلفت الحرب التي شنها النظام ضد الشعب السوري أسوأ كارثة إنسانية شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وصنفت منظمة فريدوم هاوس في تقريرها الصادر لعام 2021، سوريا على أنها أسوأ دولة في العالم من حيث وجود الحقوق السياسية والحريات المدنية. غياب هذه الحقوق والحريات تزامن مع ما سببته الحرب من دمار وقتل واختفاء قسري للآلاف وتفشي الفساد والتفكك الاجتماعي، وتشريد نحو 12 مليون شخص، أي أكثر من نصف سكان سوريا، نصفهم غادر البلاد إلى دول الجوار (الأردن، لبنان، العراق، تركيا)، في حين قصد مئات الآلاف منهم دول أوروبا وأميركا الشمالية ومصر والسودان ودول المغرب العربي. وحسب الإحصائيات الرسمية فإنه يوجد حالياً في تركيا أكثر من 3.6 ملايين لاجئ سوري 47% منهم تحت سن الثامنة عشرة (1.7 مليون)، كما تستضيف أوروبا أكثر من مليون لاجئ سوري 59% منهم في ألمانيا و11% منهم في السويد، ويتوزع البقية على عدد من الدول الأوروبية الأخرى مثل فرنسا والنمسا وهولندا والمملكة المتحدة واليونان وغيرها.
يواجه اللاجئون السوريون في المنفى تحديات كبيرة منها فقدان الجيل الجديد من الأطفال السوريين لعناصر تكوين الهوية الوطنية لديهم بفعل غياب المعرفة بتاريخهم وتراثهم الثقافي والانخراط في مدارس الدول المضيفة من دون تلقي أي معلومات تساهم في بناء هويتهم الخاصة لعدم دراستهم أي مناهج عن تاريخ سوريا أو تراثها الثقافي أو تعلم اللغة العربية التي تشكل اللغة الأم لغالبية هؤلاء.
أغلب الدراسات الحديثة تنظر إلى تدريس التاريخ على أنه ضروري لمشروع بناء الهوية الوطنية خاصة بالنسبة للاجئين الذين ينخرطون في نضال من أجل الحرية حيث تتعرض هويتهم للتهديد بسبب اللجوء، لذا يُنظر إلى التاريخ على أنه عنصر محوري في بناء هويتهم الوطنية. وفي مقارنة سريعة بين النازحين واللاجئين في المنفى نجد أن أطفال النازحين يتلقون التعليم وفق مناهج متعددة حسب قوى أمر الواقع التي تسيطر هنا أو هناك، مع ذلك حالهم أقل كارثية بكثير من أطفال اللاجئين في المنفى الذي يفتقدون لأي مدارس خاصة بهم أو مناهج للحفاظ على هويتهم أو تراثهم الثقافي. على سبيل المثال تم إنشاء المئات من مراكز التعليم المؤقتة الخاصة بالأطفال السوريين في تركيا، ورغم التحديات الكبيرة التي كانت تواجهها هذه المراكز، إلا أنها كانت تُدرِّس الأطفال مناهج مقبولة تركز على تعليم اللغة العربية والتاريخ والدراسات الاجتماعية الأخرى إلى أن تم إلغاء هذه المراكز بشكل تدريجي ابتداء من العام الدراسي 2016-2017 بذريعة دمج الأطفال في نظام التعليم التركي، وبذلك حُرم أكثر من 680 ألف طالب سوري من تعلم أي شيء عن لغتهم الأم أو تاريخ بلدهم وتراثهم الثقافي الأمر الذي ينذر بنشوء جيل كامل من دون أية هوية أو انتماء وطني، وهذا الأمر ينطبق على جميع الدول الأخرى التي يوجد فيها لاجئون سوريون.
يقول المؤرخ البريطاني آرثر مارويك في كتابه “الطبيعة الجديدة للتاريخ” لعام 2001 إنه “من خلال الإحساس بالتاريخ فقط، تؤسس المجتمعات هويتها، وتوجِّه نفسها، وتفهم علاقتها بالماضي وبالمجتمعات الأخرى”، ويساهم التاريخ في تعزيز التماسك الاجتماعي وبناء الذاكرة الجمعية وتكوين الولاء الوطني لدى الأجيال المتعاقبة. كما جادل ريتشارد شيرمرهورن بالحاجة إلى “امتلاك أسلاف مشتركة حقيقية أو مفترضة وذكريات لماض تاريخي مشترك كأساس يتشكل عليه الارتباط العرقي والهوية. لذلك يلعب تدريس التاريخ دوراً محورياً في بناء وصيانة وتعزيز الهوية الوطنية خاصة بين الأجيال الشابة. إذاً يعكس التاريخ الهوية، والمعرفة بتاريخ بلدك شرط لا غنى عنه لمعرفة من أنت، وإذا لم تكن على معرفة بتاريخ سوريا فمن الصعب أن تقول إنك سوري.
وبالرغم من أن الأطفال السوريين في المنفى يتلقون روايات من ذويهم عن الاضطهاد والحرب في سوريا إلا أن هذا لا يكفي لبناء شخصياتهم المستقلة لأن هذه الروايات لا يتم تلقينها لهم بطريقة منهجية، لذا لا بد من النظر إلى تدريس تاريخ سوريا من أجل بناء الهوية الوطنية على أنه مهمة بالغة الأهمية للأطفال السوريين الذين ولدوا في المنفى من دون ذاكرة حية لوطنهم.
إلى جانب ذلك يحمل تدريس التاريخ أهدافاً سياسية تتعلق بالعمل من أجل إبراز القضية السورية وحشد الدعم لها في المحافل الدولية والحفاظ على وجود السوريين ذاته كمجتمع في المنفى من خلال إعداد أطفالهم ليصبحوا سفراء للقضية السورية وأوصياء على تاريخها وثقافتها، ومن المهم بالنسبة للأطفال السوريين أن يعرفوا لماذا تركوا بلادهم وجاؤوا إلى المنفى، وهذا يتطلب معرفة هؤلاء القراءة والكتابة باللغة العربية لدراسة تاريخهم، فاللغة حامل مهم للثقافة وعلامة على هوية المجتمع وغالباً ما يترافق فقدان اللغة في بلدان الشتات بالقلق من فقدان الهوية خاصة في ظل تقييد استخدام اللغة العربية في أغلب الدول المضيفة للاجئين السوريين وإجبارهم على التعلم باللغة المحلية لهذه الدول.
أمام هذا الواقع لا بد من القيام بمجموعة من الخطوات لتفادي ضياع جيل كامل من الأطفال السوريين في المنفى مثل إقامة مشاريع لبناء الهوية ومحو الأمية الثقافية لديهم، والتركيز على نقل المعرفة الثقافية والتاريخية الأساسية للمجتمع السوري، والسعي لدى الدول المضيفة خاصة تركيا لافتتاح فرع للدراسات السورية في إحدى الجامعات التركية لتخريج شباب على دراية واسعة بتاريخهم وتراثهم الثقافي والحفاظ عليه ونقله إلى الأجيال القادمة. كما يتوجب على الجمعيات والمنظمات غير الحكومية ومراكز الدراسات الاهتمام بالتنمية السياسية للأجيال الجديدة والتركيز على الدراسات التاريخية والاجتماعية الخاصة بسوريا والعمل على الحفاظ على التراث الثقافي السوري ونقله من جيل إلى آخر بسردية وطنية موضوعية عقلانية، وإلا نحن سائرون نحو نزيف تاريخي شديد لدى أجيالنا القادمة.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت