مع اقتراب نهاية العام 2023، لا يزال سؤال الأوضاع المعيشية يؤرق السوريين فيما إذا وصلنا للقاع أم لا يزال هناك المزيد من التراجعات على مختلف الأصعدة!
مع طي العام 2023 دفاتره يُظهر الاقتصاد السوري اختلافات جوهرية عن اقتصادات الدول الأخرى، ففي حين أن الكثير من الدول تتعامل اليوم مع أزمات قوامها؛ تباطؤ النمو الاقتصادي، وتداعيات ارتفاع معدلات الفائدة والتضخم، وانقطاع سلاسل التوريد، وزيادة الديون والعجز، وتقليص الدعم، والركود الاقتصادي، والحروب، والأزمات الجيوسياسية. تواجه سوريا وضعاً يتجاوز هذه المشكلات النمطية وصل إلى حد غياب المعنى الحقيقي لتعريف كلمة اقتصاد، ونظام اقتصادي.
يعد الاقتصاد في أي دولة نظاماً معقداً يعتمد على توزيع الموارد المحدودة لتلبية الاحتياجات والرغبات غير المحدودة للأفراد الذي يعيشون في هذه الدولة، وفي سبيل هذا قد تتبنى الحكومات نماذج متعددة مثل “الاشتركية” حيث تدير الدولة الموراد وأدوات الإنتاج وتعمد إلى توزيع السلع والخدمات على أفراد المجتمع، أو “الرأسمالية” بحيث يتحمل القطاع الخاص مسؤولية إنتاج وتوزيع السلع والخدمات، أو قد تتبع نهجاً مختلطاً، حيث تتبع الحكومة والقطاع الخاص دوراً في الإنتاج والتوزيع، وتختلف تسميات هذا النهج بين “الاقتصاد المختلط” و”اقتصاد السوق الاجتماعي” و”اقتصاد الرفاهية” و”الاقتصاد الاشتراكي الديمقراطي”.
وتعمد الدولة إلى اتباع سياسات مختلفة لتوزيع الموارد المحدودة على أفراد المجتمع مثل سياسة الدعم عبر تقديم السلعة أو الخدمة بسعر رخيص، والإنفاق الحكومي والضرائب لتمويل الخدمات العامة مثل التعليم والصحة والبنية التحتية، والتوزيع العادل للدخل لتقليل الفوارق الاقتصادية، وسياسات التحفيز الاقتصادي لتشجيع النمو وخلق فرص عمل.
إذا طبقت ما سبق على معظم دول العالم، فستجد حكومات اشتراكية أو رأسمالية أو مختلطة، تقر سياسات اقتصادية لديها مؤسسات فاعلة، تدير الموارد، تخطئ وتصيب، تعاني من أزمات عادية أو حادّة، يشعر بعض المواطنين بالرضا وآخرون بالسخط.
لنأتي إلى سوريا بين أعوام 2011 و 2023 سيظهر أن النظام وحكوماته المتعاقبة كرّس الموارد الاقتصادية في سبيل قمع الثورة، لم يوفّر جهداً على الإطلاق في تدمير البنى التحتية واستهداف شبكات المياه والكهرباء والطرقات، لم يفكر، للحظة، في خسارة القطاع الصناعي، وإحراق المحاصيل الزراعية. قصف البلدات والمدن بكل أنواع الأسلحة وقتل واعتقل المدنيين وتسبب بهجرة ونزوح 10 ملايين شخص داخل وخارج سوريا.
أما عن ممارساته الاقتصادية، فقد أفرغ خزائن المصرف المركزي من القطع الأجنبي، واعتمد على سياسة التمويل بالعجز، وتعويم الليرة، والتخلي عن سياسات الدعم الاجتماعي، وتحرير الأسعار، وشجع على تصدير المحاصيل الزراعية في الوقت الذي تعاني فيه الأسواق المحلية من نقص حاد، وجعل الأسواق مرتعاً لتجار الأزمات والحرب فاستفاد المتنفّذون وافتقر السكان، وجعل سوريا فزّاعة تخشى دول العالم والشركات الاقتراب والتعامل معها خوفاً من العقوبات.
ليس مهماً ذكر تحديثات ما وصل إليه أرقام الاقتصاد من تضخم وبطالة وفقر وانهيار للعملة وقوتها الشرائية، فالقول بارتفاع تلك المعدلات عن العام السابق أو عن بداية العام الحالي لا معنى له، فكل الأرقام سيئة، ومقارنة السيئ بالأسوأ ليست مدعاة للقول إن الاقتصاد السوري قد انهار. فـ85% من السكان تحت خط الفقر ليس أفضل من 89%، و150% تضخم في الأسعار العامة ليس أفضل من 120%.
على كل حال لم ينته النظام عند هذا الحد! فمع نقص القطع الأجنبي وانخفاض المساعدات من الحلفاء واشتداد وتيرة العقوبات ونقص السلع في الأسواق، حوّل سوريا إلى دولة مخدرات تنافس أعتى الدول في هذا القطاع إنتاجاً وتوزيعاً. حوّل نظام الأسد سوريا من دولة صدّرت البروكار الدمشقي في الماضي إلى دولة مخدرات، يشتكي القريب والبعيد.
لم يعد نظام الأسد الذي تطالبه بعض دول العالم بإدارة الاقتصاد، قادراً على إدارة نفسه في ظل تحكم إيران وروسيا بالقرار السيادي، فباع موارد قومية ومنح امتيازات واسعة النطاق لهما في قطاعات الطاقة والبنية التحتية والاتصالات وإعادة الإعمار. لم يعد قادراً على مقارعة الميليشيات التي ساهم في إيجادها في طول البلاد وعرضها. وغنيٌ عن القول إن هذا التوجه يعكس عواقب طويلة الأمد للأجيال القادمة في سوريا، كما أن تلك الاتفاقيات تعطي الأولوية لمصالح الدول الأجنبية على حساب الاحتياجات المحلية، ما يعمّق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في البلد.
مقارنة بالأزمات الاقتصادية التي تواجهها دول أخرى، يبدو واضحاً أن سوريا لا تعاني من أزمة اقتصادية تقليدية، بل من غياب كامل لنظام اقتصادي فعّال، ومن غياب تام للمشرّع الذي يدير الموارد إدارة حكيمة. وعليه فإن هذا الوضع لا يعد تحدياً يمكن تجاوزه بإصلاحات اقتصادية أو سياسات معينة. بل يعكس انهياراً للبنى الأساسية للدولة وغياب القدرة على إدارة الموارد وتلبية احتياجات السكان الأساسية.
وعلى ضوء هذا، فإن العام 2024 لن يختلف عن العام 2023 كما حال الأعوام السابقة، ومن غير المرجح أن يشهد العام القادم تحسناً ملحوظاً بأي من المؤشرات الاقتصادية أو في الأوضاع المعيشية. حيث تتطلب سوريا حلاً جذرياً يتجاوز الإصلاحات الاقتصادية والسياسات التقليدية. تحتاج سوريا إلى إعادة بناء نظام اقتصادي جديد بإدارة جديدة. وأخيراً، لا حاجة لمطالعة الأرقام، فكل السوريين مرهقون مالياً، أو صحياً، أو نفسياً، كلهم بلا استثناء.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت