يقرأ محللون كُثر، اهتمام رأس النظام السوري، بشار الأسد، ببث الدماء في الحزب الحاكم بالبلاد، خلال الأشهر القليلة الفائتة، على أنها مناورة موجّهة للخارج. ووفق هذه القراءة، فإن انتخابات حزب البعث الأخيرة، وتجديد قيادته بصورة شبه كاملة، تستهدف إقناع هذا “الخارج”، بأن الأسد ينفّذ جانباً من المطلوب منه، من إصلاحات داخلية، وفق “مبادرة التطبيع” العربية.
ورغم صعوبة إهمال التحليل السابق، إلا أن تحليلاً آخر يفرض نفسه بقوة أكبر. فتجديد الآلة الحزبية، تشكّل واحدة من استراتيجيات الحكم بدمشق. وهذا ما أشرنا إليه، في مقال سابق، في هذه الزاوية نفسها، حينما استشهدنا بتحليل الأكاديمي الأميركي، ستيفن هايدمان، في كتابه -“التسلطية في سورية، صراع المجتمع والدولة”-. ووفق هذا التحليل، فإن النظام السوري يقوم بإخضاع أجهزته، إلى “تحديث التسلطية”، باستمرار. ينطبق ذلك على الأجهزة الأمنية، والجيش. كما وينطبق على حزب البعث، بوصفه قناةً لخلق المصالح المتبادلة بين النظام وبين مكونات مجتمعية. وذلك لضمان حياة النظام على المدى الطويل، من خلال عمليات تكيّف من الأدنى إلى الأعلى.
من جانبنا، نضيف إلى قراءة هايدمان، دوراً آخر مهماً لحزب البعث، في تركيبة النظام الحاكم. فدوره لا يقتصر على الجانب العقائدي المتمثّل في البروباغندا الموجّهة للشارع المحلي فقط. كما لا يقتصر على الجانب الوظيفي بوصفه أداةً في مواجهة خصوم النظام الحاكم بالداخل. بل هنالك دور آخر، لا يقل أهمية عما سبق، وهو تحديث “التكنوقراط” السياسي والاقتصادي، الذي يستند إليه النظام في رسم سياساته التنفيذية.
وانطلاقاً من الحيثية الأخيرة، كان لافتاً إشارة الأسد إلى الاقتداء بتجربة الحزب الحاكم في الصين، خلال كلمته المطوّلة أمام اللجنة المركزية لحزب البعث، قبل أسبوعين. ولا نعتقد أن هذا الاقتداء ينحصر بالبعد الاقتصادي لهذه التجربة، فقط. بل يتعداه إلى جوانب أخرى، تشكّل مصادر إغراء بالنسبة للأسد.
ويبدو أن زيارة رأس النظام، إلى الصين، في أيلول/سبتمبر الفائت، كانت منعطفاً في تعزيز إعجابه بالنموذج الصيني للحكم. يتضح ذلك في تقليد الرئيس الصيني، شي جين بينغ، حينما عقد الأسد حواراً مع مجموع من الأكاديميين الاقتصاديين المنتمين لحزب البعث في نيسان/أبريل الفائت. وهو إجراء يشابه ما يقوم به الرئيس “شي”، من حين لآخر، حينما يلتقي أكاديميين اقتصاديين صينيين، ويبحث معهم سبل تحديث “الاشتراكية” ذات “الخصائص الصينية”. وهو ما يذكّرنا بطلب الأسد من قيادات البعث، أن يبحثوا في نموذج “الاشتراكية” الواجب اعتماده في الحالة السورية الراهنة.
وفي السياق نفسه، كان لافتاً كمّ التنظير العقائدي والسياسي الذي عكف عليه بشار الأسد في الأشهر القليلة الفائتة، بعد أن كان يختفي لفترات طويلة، بعيداً عن الإعلام المحلي، وعن الأحداث الداخلية والإقليمية. وهو ما يبدو، في تحليلنا، تقليداً لأسلوب الرئيس الصيني، الذي يُشتَهر بنشر مقالات في دورية “كيوشي” للنظريات السياسية، التابعة للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، بشكل دوري. مقالات يطغى عليها الجانب التنظيري، والذي يركّز أساساً على البعد الاشتراكي للاقتصاد الصيني، رغم “رأسماليته” البادية للعيان.
ويمكن فهم سرّ إعجاب الأسد بالنموذج الصيني، وبالذات، تجربة الرئيس “شي”. فالأخير استطاع إحكام قبضته على السلطة قبل عامٍ فقط، ليصبح أقوى زعيم للبلاد منذ ماو تسي تونغ. وأزال قبل ست سنوات، العقبة الدستورية التي كات تحول بينه، وبين حكم البلاد، مدى الحياة. وهو يمسك بزمام رئاسة الدولة، والأمانة العامة للحزب الحاكم، ورئاسة اللجنة العسكرية.
في الوقت ذاته، فإن الصين تحوّلت –تحت قيادة الحزب الشيوعي الصيني- من واحدة من أفقر دول العالم، في ظل قوى إنتاجية متخلفة نسبياً، إلى دولة متوسطة الدخل، وصاحبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم. والمغري أكثر في التجربة الصينية، بالنسبة للأسد، أن هذا النهوض الاقتصادي كان قد تلطخ بإخفاقات وخسائر بشرية كبرى، مثل “القفزة العظيمة إلى الأمام”، (1958 – 1962)، التي أدت إلى المجاعة الأكبر في تاريخ البشرية. دون أن ننسى “الثورة الثقافية”، التي أطلقها ماو، واستمرت 10 سنوات تميزت بالعنف والتخريب، وخلّفت نحو مليوني قتيل أغلبهم من المتعلمين والمثقفين، قبل أن يبدأ عصر “الإصلاح”، عام 1978.
ويبدو أن رئيس النظام السوري يراهن على قدرته على ابتداء “عصر إصلاح” خاص بتجربة حكمه في سوريا. لكن رغبته بالاقتداء بالتجربة الصينية، تعوقها جملة عوامل. أبرزها، الاختلافات الجوهرية في دور الحزب الحاكم، بين الحالتين السورية والصينية. ففيما يشكّل البعث أقل ركائز السلطة أهمية، بين ثلاثي (المخابرات، الجيش، الحزب الحاكم)، ينعكس الترتيب في الحالة الصينية. إذ أن الحزب الشيوعي الصيني، هو القوة المركزية داخل النظام الحاكم. وكل ما في الصين، يُدار من جانب اللجنة المركزية للحزب الشيوعي. حتى أن الجيش، يُعتبر بمثابة الجناح المسلح للحزب الحاكم. ورغم أن الصين، هي “دستورياً”، نظام نيابي، بحيث إن مجلس النواب، هو أعلى هيئة سياسية في البلاد، إلا أن قيادة الحزب الشيوعي هي مركز الثقل الحقيقي، وهي تتحكم بشكل كامل في قرارات التعيين في المناصب المهمة بالدولة.
ببساطة، إن أردنا مقارنة النظام الحاكم في سوريا، بذاك الذي في الصين، علينا أن نبدّل موقع المخابرات، بالحزب الحاكم. ومن هنا، يمكن فهم كيف لعب الحزب الشيوعي الصيني دوراً حاسماً في نهضة الصين، نظراً لكونه يستند إلى ركيزة حكم مدنية -حتى لو كانت استبدادية وشمولية-. في حين يرتكز النظام السوري إلى ركيزة حكم أمنية – عسكرية.
فارق جوهري آخر، بين نظامَي الحكم في سوريا والصين. أن الأول، ينغلق في قمة هرم النظام، على العائلة. فيما الثاني، مفتوح على قيادات الحزب الكبرى. هذا الفارق يحيلنا إلى وجه الشبه بين نظامَي الحكم في سوريا، وفي كوريا الشمالية. ورغم أن الحزب الحاكم في بيونغ يانغ، يملك دوراً تنفيذياً أكثر فاعلية داخل تركيبة النظام، مقارنةً بحزب البعث في سوريا، إلا أن دور العائلة الحاكمة والجيش، أعمق في كوريا الشمالية، مقارنة بالحالة في سوريا. في حين تتشابه فلسفة السياسة الخارجية لدى النظامين، إلى حدٍ كبير، مما قاد البلدين، سوريا وكوريا الشمالية، إلى العزلة الدولية والعقوبات.
وإن كان يمكن فهم نظام الحكم في كوريا الشمالية، بثلاث جمل، وهي: حكم الحزب الواحد، حكم الفرد الواحد، وحكم الأسرة الواحدة. فإن الجمل ذاتها، مع تبديل بسيط، تتيح لنا فهم نظام الحكم في سوريا، بوصفه: حكم المخابرات، حكم الفرد الواحد، وحكم الأسرة الواحدة. مما يجعل محاولة التشبه بالنموذج الصيني، ضرباً من الخيال في الحالة السورية. إلا إن قرر الأسد تخفيف سطوة العائلة والمخابرات والجيش، لصالح تكنوقراط البعث المُجددين. فهل يمكن للأسد أن يقوم بنقلة، بهذا الحجم، داخل النظام الحاكم؟ لا نعتقد أنه يريد ذلك، أو أنه قادر على تنفيذه، حتى لو أراد. لذا، يبقى النموذج الكوري الشمالي، هو سقف ما يمكن أن يطمح الأسد، للاقتداء به.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت