بتخطيط مُسبق، دفع الحريصون على منظومة الأسد- بخبث أو سذاجة- بأكبر وأخطر خرافتين ساهمتا باستمرار النزيف السوري: “أين البديل؟” و”المعارضة ليست موحدة!”. لقد طغى وهمٌ وانتشر كالنار في الهشيم، أن لا حل للقضية السورية إلا بوجود البديل؛ وهو غير متوفر. وأن المعارضة يصعب أن تكون بديلاً، لتبعثرها وعدم أهليتها. وهكذا كانت هاتان الخرافتان فاعلتين جداً بتعقيد المأساة السورية وامتدادها.
في قضية البديل؛ لو كانت المسألة السورية طبيعية، أو تحتاج إلى مجرد تبديل فرد بفرد؛ لوجد هؤلاء ألف ألف بديل- فعندما تقرر إزاحة صدام حسين من السلطة في العراق، لم يعدم الأميركيون الوسيلة؛ وما وجدوا صعوبة بلملمة زمرة من الأشخاص، كانوا قد تبعثروا في شوارع لندن وديترويت وطهران وأسواق دمشق؛ ونصّبوا لهم أرجلاً من خشب؛ وسلّموهم مقاليد سُلْطةٍ فصّلوها بعناية على قياس دستور أخرجه الداهية “بريمر”. وكان ذلك بسهولة تصميم برنامج ألعاب للمعاقين أو الشياطين. فمعاذ الله أن يكون السوريون يبحثون عن ذلك، لأنه الوصفة الأنجع لتأبيد آلامهم؛ فقد ذاقوا الويلات من حكم الفرد.
لا شك أن عدم وجود بديل في الحالة السورية هو أحد المعضلات التي أطالت في أمد المأساة السورية، حيث يرى بعض المراقبين أنه إذا كانت عقدة الحل في سوريا إيجاد البديل؛ وإذا كان القرار بذلك خارجيا؛ وإذا كان على البديل أن يكون بمواصفات مَن تمت حمايته على حساب دم السوريين وتدمير بلدهم، فليطمئن هؤلاء الباحثون في أن البديل غير متوفر؛ والسبب هو أنهم لن يجدوا من هو بذات المواصفات. فأين يعثر الباحثون على بديل مثل الذي حوّل سوريا إلى ملكية شخصية أبدية؟! أين يجدون مَن تحوّل -هو ذاته- عند بعض السوريين إلى إله يحكم رعايا وعبيدا؟! وهل يجدون مثيلاً للذي أراح محتل الأرض لعقود؟! وهل يمكن أن يجدوا مَن يتسبب بكل هذا الخراب والدمار عقاباً على صرخة حرية؟! وأخيراً، أين يجدون من يستدعي الاحتلال لحماية عرشه؟! هذه بضاعة ثبَت أنه يستحيل توفرها.
الرئاسة في أي بلد مقام رفيع، ولكنها في أذهان كثير من السوريين والعالم التصقت بسفك دماء الشعب، الذي عليها افتراضياً حمايته؛ وارتبطت بتدمير البلد، الذي عليها رعايته وصيانته؛ وبتشريد الملايين، التي عليها الحفاظ على كرامتها وحياتها؛ وبانتهاك الدستور والقانون، الذي عليها أن تعمل بموجبه وتصون قداسته. ومن هنا نشهد تطاول الرفيع والوضيع على ذلك المقام؛ بحيث اندفع بعض من يعانون وضعاً نفسياً غير مريح إلى ترشيح أنفسهم إلى هذا المنصب؛ وأول ما يطرحونه هو أنهم أفضل مما هو قائم؛ وهذا يعطي دلالة على التهتك الذي وصل إليه هذا الموقع.
وبالانتقال إلى الشق الثاني من الخرافة، والمتمثل بعدم توحد المعارضة وعدم أهليتها، فإن أحداً لا ينكر أن بعض هذه المعارضة قد راكم بداخله أمراض سوريا السياسية على مدار نصف قرن؛ والبعض أمضى عقوداً من الزمن خارج سوريا، وبذهنه تصور عن بلد وأناس لا يشبهون سوريا 2011 وأهلها؛ وهناك من فَسَدَ، وأفْسَدَ، ومارس الإقصائية، وارتبط بأجندات ومصالح متنافرة ومتذبذبة؛ وهناك من استسلم وأُحبِط، ليرى أن لا حول ولا قوة في الشأن السوري إلا لقوى خارجية، وأن دوره أو موقفه أو مساهمته لا تقدّم ولا تؤخر؛ وهناك من يصرخ داعياً إلى مؤتمر وطني لتمثيل السوريين، يتمخض عنه برق خلبي.
مع الفاعلية الخارقة المدمٍرة لهاتين الخرافتين، هل سيستمر هذا الحال؟ بالتأكيد، لا فالماكينة الإعلامية التي تسوّق “عدم توفر البديل” وأن “المعارضة مفككة وغير مؤهلة” أضحت مكشوفة، ولن تستقيم، وما ذلك بقَدَرٍ محتَّم؛ ولا “اليأس والإحباط الشعبي” ثوابت لا تتزحزح؛ ولا “الحماية الإيرانية والروسية” دائمة أو قادرة؛ ولا حُقَن الإسعاف الإسرائيلية باتت كافية؛ كلها مؤثرة وهامة في بقاء الحاكم، ولكن الكل مأزوم ويبحث عن مخرج؛ ودوام هذا الحال من المحال.
هناك حقائق على الأرض تفقأ العيون؛ فشعب أراد الحرية لا يمكن أن يُهزَم، وما من مستبد استطاع أن ينهي شعبا يستحق الحياة والحرية، ويسعى إليهما. لا بد من حدوث أي ثغرة هنا أو هناك. ويا لكثرة الثغرات الكفيلة بنهاية النظام الآن. عندها لا بد من تداعي السوريين إلى لملمة جراحهم، والبدء بإعادة بناء دولتهم على أسس جديدة تجاه بعضهم البعض، وتجاه من ساهم في امتداد مأساتهم؛ وعلى رأس هؤلاء النظام وحُماته. وجدير بالقول في هذا السياق إنه على الرغم من كل تلك الأمراض التي تشوب المعارضة، فإنها تبقى أشرف وأطهر من المنظومة الإجرامية الحاكمة؛ فهي على الأقل لم تشرّد السوريين، ولم تعتقلهم، ولم ترتكب جرائم حرب بحقهم. وهي أساساً لا تفكر بأن تكون البديل. وأي وطني عاقل يدرك أن ما من بديل للحال السوري القائم إلا حكماً رشيداً مدنيا تفرزه انتخابات حرة ديمقراطية في بيئة آمنة محايدة مرعيّة ومضمونة دولياً لخلق وطن سيّد مستقل، يحكمه القانون. وأمر كهذا يستلزم أن تأخذ الأمم المتحدة بيد السوريين، وتطبق القرارات الدولية التي أصدرتها بالإجماع، بحرفيتها وكليّتها.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت