لا نعلم ما هي آثار الخلاف بين بشار الأسد ورامي مخلوف على شراكتهما المالية خارج الحدود السورية، المؤكد أن الأموال المسجَّلة باسم الثاني في سوريا تم الحجز عليها، وربما تُصادر لاحقاً لصالح جهات حكومية، ما يعني استعداد بشار للتضحية بجزء من أملاكه “ولو مؤقتاً” لأسباب سياسية. المكسب الذي يتجاوز بكثير قيمة الأملاك المحجوز عليها هو في ادعاء الحرب على الفساد، إلى درجة تستهدف أكبر “حيتان” الحلقة الضيقة، في ما يمكن فهمه تلبيةً لمطلب موسكو في الحملة الإعلامية الروسية التي استهدفت قبل أسابيع سلطة الأسد، وهددت بحرب على الفساد مشابهة للحرب على “الإرهاب”.
تزامناً مع قضية رامي مخلوف، تراجع مسؤولون روس عن الحملة التي استهدفت بشار شخصياً، وفي هذا دعم غير مباشر له أمام قسم من الموالين قد يجد في الحملة الإعلامية السابقة وتمرد رامي إشارات إلى قرب سقوط الأسد. من المرجح أن يكون الأخير قد تعهد لموسكو بأكثر مما أُعلن عنه حتى ينال تغطيتها، تحديداً في الجانب الاقتصادي الذي بات يُنذر بانهيار المنظومة الأسدية، وفي وقت، إن لم تكن المافيا الروسية تتطلع إلى التكسب منه، فهي على الأقل غير مستعدة لإنقاذه.
نظرياً، خرج بشار من الأزمة محققاً أكثر من مكسب، أول المكاسب توقف الحديث عن فرضية تنحيته قريباً من قبل الحليف الروسي، وثانيهما ليس التظاهر بالنظافة ومحاربة الفساد، لأن هذه الكذبة تصلح فقط للاستهلاك الإعلامي الممجوج، العبرة هي في إظهار قدرته على إبن خاله، والقول أن لا وجود لشريك حتى ضمن الحلقة الضيقة. لعل أهم ما حققه على الصعيد الأخير هو إعلان إيهاب مخلوف “شقيق رامي ونائبه حتى أيام قليلة انقضت” ولاءه لبشار الأسد ووجود خلاف بينه وبين أخيه، وأن إعلانه هذا لم يأتِ تحت أي ضغط كان، سواء صدق في نفيه وجود ضغوط أو لم يصدق. تكريس السلطة المطلقة لآل الأسد بإظهار الشقاق ضمن العائلة الواحدة يختزل الخصم أو المنافس إلى حالة فردية لا تحظى بحيثية اجتماعية، وقد عايش السوريون من قبل حالة مشابهة ببقاء الابن الأكبر لرفعت الأسد في سوريا بعد ترحيل أبيه، ومواظبته على إعلان ولائه لعمه ووريثه من بعده، خاصة عندما كان يعلو صوت أخيه سومر ضد حكم العم أو إبن العم.
أبعد من المكسب المعنوي بالتأكيد على السلطة المطلقة لأبناء حافظ الأسد، ربما تكون الضغوط الروسية قد نجحت في دفع السلطة الأسدية إلى ما يصب في صالحها، وما كانت تفعله الأخيرة تلقائياً في محطات الاختبار الحاسمة. رامي مخلوف ليس الأول ضمن خرافها السمينة التي يُضحى بها، هذه عملية كانت تحدث بين الحين والآخر، لكن بهدوء شديد، وفي أزمنة لم تكن فيها السوشيال ميديا تلعب الدور الإعلامي الذي نعيشه اليوم.
في الواقع كانت عملية تدوير الثروة تحدث وفق متطلبات السلطة، وبما يخدم تحكمها المطلق بها، والحصول على النسبة الأكبر منها. منذ انقلابه، قدّم حافظ الأسد نفسه شريكاً لبقايا البرجوازية السورية، على الضد من رفاقه القدامى الذين كانوا يتجهون يساراً، وكان البعض منهم راح يُعجب بنموذج ماو تسي تونغ. كانت الشراكة مع بقايا البرجوازية إشارة إيجابية أيضاً إلى دول الخليج، ليأتي حصاد حرب تشرين 1973 الأهم بالمساعدات المالية الخليجية غير المسبوقة. تلك كانت الغنيمة الأثمن لتحريك جبهة الجولان وللانفتاح “العربي” الذي أبداه حافظ الأسد، وانعكس تساهلاً مع بقايا البرجوازية التجارية.
بعد أقل من عشر سنوات سينقضّ حافظ على تلك البرجوازية، بزعم دعمها الإخوان المسلمين، ثم سنكون مع رواية خواء الخزينة السورية وتبرع القذافي بمبلغ يُدفع لرفعت الأسد كي يُغادر سوريا عام 1984. لا أحد يعلم مصير المساعدات الخليجية الضخمة خلال ما يقارب عقد من الزمن، فضلاً عن إيرادات خط أنابيب كركوك-بانياس التي ارتفعت مع الفورة النفطية، وهو الخط الذي أغلقه حافظ الأسد بسبب اصطفافه مع إيران في حرب الخليج الأولى، هذه المرة مقابل الأموال الإيرانية. الحصيلة الأساسية للثمانينات هي إلغاء الهامش الصغير بين السلطة وقسم من النشاط الاقتصادي، لتحتكره كاملاً مع بروز أسماء قليلة نجت من التصفية الاقتصادية، وسيتضح مع الوقت أنها بمثابة خراف سمينة يسهل ذبحها عندما تحين لحظتها.
في التسعينات، حين أُصدر قانون استثمار جديد، ستبرز أسماء كبرى جديدة، سهولة سقوطها أو إسقاطها تدل على كونها واجهات لرجالات السلطة، والحديث هنا عن المستوى الأضخم من الثروات. مع تلك الأسماء التي لا تُعرف بدقة شراكتها مع السلطة، سيبدأ بالظهور قسم من ثروات المسؤولين عبر أبنائهم الذين راحوا يستثمرون في شتى المجالات، إنما كل منهم حسب درجة النفوذ والحماية اللذين يتمتع بهما. أيضاً العديد ممن لمعوا فجأة كحيتان مال سرعان ما انكشفوا عن خراف سمينة سهل نحرها من دون أثر اقتصادي يُذكر، بما أن الأمر يتعلق أساساً بإعادة تدوير الثروة المُتحكَّم بكتلتها الأكبر.
إذا كان من قانون يسيّر عملية الصعود والهبوط فتلخيصه: نحن الدولة، نُعلي من نشاء ونحطم من نشاء. قانون ينطبق على الجميع بدرجات متفاوتة، يتربع أبناء حافظ الأسد في أعلاها. اختفت الصورة المزعومة للأب المتقشف الزاهد لحساب صورة الأبناء الجشعين للسطوة والثروة معاً، وما يصح عن رفضهم المطلق الموروث لأدنى مشاركة سياسية يسري على الاقتصاد وفق منطق زبائني رخيص. بموجب منطق الاحتكار ذاته، التخلص من شركاء آل الأسد الماليين ضرورة توازي تخلصهم من أمراء الحرب، ليكونوا الشركاء الحصريين للنصر الذي حققه لهم الحلفاء.
ما قد يكون مستغرباً هو الدفع الروسي أولاً باتجاه التخلص من ميليشيات الشبيحة وقادتها، بتطويعهم ودمجهم ضمن قوات “نظامية”، ثم الدفع باتجاه عملية مماثلة في عالم المال والاقتصاد. ذلك كله يخدم تفرد آل الأسد، بخلاف الصورة الشائعة عن سعي موسكو إلى إضعافهم أو تقويض سلطتهم. إنه أقرب إلى الدعاية الروسية عن كون التدخل العسكري أتى احتراماً للسيادة وما إلى ذلك من شعارات، إلا إذا كانت موسكو ترى أن خروفاً سميناً واحداً أسهل لها لحظةَ الذبح من قطيع خراف.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت