خطوة غير كافية للمفقودين في سورية
قرّرت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 29 الشهر الماضي (يونيو/ حزيران) إنشاء مؤسّسة دولية تعمل على جلاء مصير المفقودين والمخفيين السوريين، والكشف عن أماكن وجودهم بالتوازي مع العمل على تقديم الدعم لمجموع الضحايا وأسرهم، وذلك بعد سنوات من القتل ومن الإخفاء والتنكيل والاضطهاد الذي مارسه النظام أمام مرأى العالم ومسمعه.
وفي السياق، لم يستفض أيُّ من المتكلمين في الأمم المتحدة بشرح الآلية التي سيجري اعتمادها للوصول إلى النتيجة المبتغاة من مؤسّسة كهذه، خصوصًا عندما يتمنّع النظام عن التعاون الجدّي معها، كما هو متوقّع، وخصوصًا أيضًا أن المؤسّسة تقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف، أي أنها تساوي بين الفعل وردّ الفعل، والجاني والضحية، إذ من المفترض أن يُدرك المتابع أن الهدف الأساس من إنشاء مؤسّسةٍ كهذه هو الاقتصاص أولًا من النظام السوري، لأنه يتحمّل المسؤولية الكبرى في اختفاء معارضين سوريين وخطفهم وتصفيتهم، هذا السلوك الذي يتكرّر دائمًا قبل أن يتكثّف منذ اندلاع الثورة عام 2011.
واللافت أن مجموعة دول، تتقدّمها لكسمبورغ، هي التي تقدّمت بالقرار، في غياب الدول الكبرى التي لم تتّخذ موقفًا واضحًا وحاسمًا مما ارتكبه، وما زال يرتكبه، النظام بحقّ السوريين المعارضين والثائرين، وأن الكلام والشعارات التي رفعتها منذ اندلاع الثورة السورية كانت عناوين عامة لم تجد أية مفاعيل على أرض الواقع، ولم تنعكس في مجموع خطواتٍ إجرائية تعمل على حماية السوريين، وعلى المساعدة في تأسيس شبكات أمان تكون بمثابة لبنة أساسية يستكملها السوريون لاحقًا ببناء نظام سياسي مختلف يؤمّن لهم أبسط حقوق التعبير عن النفس وعن الرأي بالأطر الديمقراطية، أي تأسيس شبكات تعمل على تأمين السوريين ضد كل محاولات نثر الخوف وسياسة الرضوخ المبنية على التهديد والوعيد والاغتيال والتصفية.
لطالما شاهد العالم هذه المأساة من دون أن يحرّك ساكنًا، واليوم يعمل على إنشاء مؤسّسة كهذه لا تحمّل المسؤوليات بشكل واضح، ولا توضّح آلية المعالجة باستثناء موضوعية مزعومة، سرعان ما تتحوّل إلى معالجة غير سياسية لمشكلة سياسية، مؤسّسة تفرّغ السياسة من سياسيتها وتحاول أن تموّه المشكلة لا أن تعالجها، لأن العلاج الفعّال والوحيد هو الاقتصاص من بشار الأسد ونظامه، والمساعدة على تأسيس نظام سياسي مختلف عن السائد، وإلا فسيبقى كل نشاطها مجرّد ذرٍّ للرماد في العيون.
الإصرار على وضع قرار يوزّع الاتهامات بهذا الشكل اللااتهامي، وبهدف البقاء على مسافة واحدة من الجميع، لا يصبّ إلا في سياق تعميم المسؤوليات، وبالتالي تبرئة من كان رأس حربة في مشروع إرساء الجريمة المنظمّة بحقّ السوريين، على قاعدة أن التعميم يهدف دائمًا إلى التعمية وإلى تضييع المسؤوليات، ولم يكن، في أي لحظة من لحظات الصراع الدولي والمحلي، إلا وسيلة لهذه الغاية. التعميم هو تضييع نقطة الارتكاز، وهو استكمال المشاهدة بصمت، بما ينعكس في موافقة مضمرةٍ على القتل، وقد اتضح ذلك بشكل مباشر في كلمة مندوب لكسمبورغ حين أعلن أن “هذا القرار لا يوجّه أصابع الاتهام إلى أي أحد”.
وعلى الرغم من اعتبار لجنة التحقيق الدولية بشأن سورية قرار إنشاء المؤسسة تاريخيا، والتي أردفها رئيس اللجنة باولو بينيرو بالقول إنها خطوة طال انتظارها، وإنها جاءت لمساعدة العائلات وذوي من خطفوا وتم احتجازهم بأشكال تعسّفية، خصوصًا وأنهم تُركوا بمفردهم ليبحثوا عن أحبابهم، بما يضع المؤسّسة في خانة الضرورة الإنسانية التي ستتكلل لاحقًا بتحقيق المساءلة، إلا أن التعميم بقي سيد الموقف. وأكدّت عليه المفوضة لين ولشمان، حين ساوت بين مسؤولية الحكومة السورية وأطراف النزاع، معتبرة أن الطرفين تعمّدا “إطالة أمد معاناة العائلات من خلال حجب المعلومات عن مصير عشرات الآلاف من المفقودين أو المختفين”. مضيفًة أن أفراد العائلات الذين يحاولون القيام بمهمة الكشف عن مصير أقاربهم، معرضون باستمرار لخطر “الاعتقال والابتزاز وسوء المعاملة”، وأن معظم المخفيين من الرجال، ما يوضَح أن النساء يأخذن على عاتقهن الاضطلاع بمهمّة الكشف عن مصيرهم، ما يجعلهن عرضةً لأنواع من التمييز والابتزاز، ويعرّضهن لسوء المعاملة وفقًا للمعيار الجنسي، فالنساء السوريات “الشجاعات بحاجة إلى كل دعم يمكن أن يحصلن عليه من هذه المؤسّسة الجديدة”.
ولكن، حتى هذا السقف المنخفض في الخطاب وفي تحميل المسؤوليات لم يردع مندوب النظام السوري الدائم في الأمم المتحدة السفير بسام صبّاغ عن التصويب على القرار، معتبرًا أن “اللجنة مسيّسة”. وقال إن بلاده “حريصة على التعامل مع هذه المسألة الإنسانية، إلا أنها ترفض نهج التسييس الذي تم السير به بشأنها، وتؤكّد على أن المسائل الإنسانية لا يمكن تجزئتها، ولا يمكن التعامل معها بانتقائية”، مؤكدًا أنه كان من المفترض أن يتمثل النظام السوري في هذه المناقشات حول المؤسّسة، وهو ما لم يجرِ، فالمندوب السوري يريد لهذه المؤسّسة أن تعمل وأن يكون نظامه، أي المتّهم الأول، الخصم فيها وهو الحكم، على الرغم من شكّ كل من عايش النظام وسلوكياته بوصول هذه اللجنة إلى نتائج حاسمة في آليات تقصّي الحقائق، ومع السلوكيات النظام الذي يبدو اتجاهه واضحًا في كلام السفير، لأنهم يعلمون أن مثل هذا النوع من الحيادية لن يكون إلا في خدمتهم، ولن يصبّ إلا في إطالة عمر نظامهم، على حساب الشعب السوري وحقائقه ومعاناته وتضحياته.
مؤسّسة كهذه خطوة بسيطة جدًا إلى الأمام، لكنها غير كافية، ناهيك عن أنها متأخّرة.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت