لعب المجتمع المدني في الثورة السورية دورا رائدا ومميزا سواء على مستوى منظمات حقوق الإنسان أو المنظمات الناشطة في مجال حقوق المرأة أو الطفل أو تلك المنظمات الناشطة في الحقل المدني كالخوذ البيضاء أو مؤسسات الحقل الإعلامي التي لعبت دورا رئيسيا في حصول الثورة السورية على هذا الدعم الدولي الذي للأسف لم يحول إلى سياسات تقود إلى التغيير السياسي وتنهي المعاناة الهائلة لملايين السوريين النازحين واللاجئين.
حكم الأسد الدكتاتوري منع من نشوء منظمات المجتمع المدني أو المنظمات غير الحكومية ولذلك كان مفاجئاً للأسد ولادة هذا العدد الكبير من المنظمات ولعبها دورا رائدا في دعم الثورة السورية وتوثيق الانتهاكات اليومية التي كانت تجري بحق السوريين.
وأذكر المعركة السياسية التي دارت عام 2000 خلال فترة ربيع دمشق حول مفهوم المجتمع المدني والذي كان يعتبره الأسد مفهوما دخيلا وأداة استعمارية وغير ذلك من الحجج التي تغلف بها سياستها القمعية.
مفهوم المجتمع المدني ظهر بداية مع فلاسفة العقد الاجتماعي وذلك للدلالة على المجتمعات التي تجاوزت حالة الطبيعة وأُسست على عقد اجتماعي، فالعبارة كانت تدل على المجتمع والدولة معاً، فالمجتمع المدني هو المجتمع المنظم تنظيماً سياسياً ويعبر عن كل واحد فيه دون تمايز بين المجتمع والدولة، إذ هو مجتمع الأحرار المستقلين، وبالتالي فالمجتمع المدني كما ظهر مع فلاسفة التنوير هو مجتمع لا يعرف المراتب الاجتماعية ولا التدرج الاجتماعي، وتركيبه الداخلي لا يعرف السيطرة ولا التبعية، والعلاقات داخل المجتمع المدني ليست علاقات بين قوى سياسية أو طبقات اجتماعية ولكنها علاقات بين أحرار متساوين، إذاً نستطيع القول أن ثنائية المجتمع المدني والدولة لم تكن حاضرة في الوعي الفكري لدى فلاسفة النهضة، ذلك أن مفهوم المجتمع المدني لم يكن يقصد به أبداً أن يقابل الدولة أو يؤسس لها، وإنما كان التفكير في المجتمع المدني لدى هؤلاء الفلاسفة كان مركزاً لإبعاد الشحنة الدينية عن المجتمع وإيجاد صيغة اتفاق داخل المجتمع لتأسيس السلطة بمعيار أرضي دنيوي مدني، يلغي المفهوم القديم القائم على الحكم بالحق الإلهي.
بدأ ظهور التمايز بين المجتمع المدني والدولة مع الفكر الغربي الحديث وتحديداً مع هيغل الذي اعتبر أن المجتمع المدني يمثل الحيز الاجتماعي والأخلاقي الواقع بين العائلة والدولة، وهذا يعني أن بناء المجتمع المدني يتم بعد بناء الدولة، وهو ما يميز المجتمع الحديث كما رأى ذلك عن المجتمعات التقليدية، ومع هذا فهيغل لم يجعل المجتمع المدني شرطاً للحرية وإطاراً طبيعياً لها، فالمجتمع المدني عند هيغل هو مجتمع الحاجة والأنانية، وعلى هذا فهو في حاجة مستمرة إلى المراقبة الدائمة من طرف الدولة.
أما ماركس الذي انتقد المثالية الهيغلية في مستوياتها المختلفة، فقد نظر إلى المجتمع المدني باعتباره الأساس الواقعي للدولة، وقد شخصه في مجموع العلاقات المادية للأفراد في مرحلة محددة من مراحل تطور قوى الإنتاج أو القاعدة التي تحدد طبيعة البنية الفوقية بما فيها من دولة ونظم حضارة ومعتقدات.
فالمجتمع المدني عند ماركس هو مجال الصراع الطبقي وهو يشكل كل الحياة الاجتماعية قبل نشوء الدولة، ويحدد المستوى السياسي أو الدولة، بوصفه مستوى تطور العلاقات الاقتصادية، بعد ذلك سيخضع المفهوم الماركسي للمجتمع المدني إلى تطوير جدي على يد الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي، الذي عارض مفهوم ماركس للمجتمع المدني، ونظر إليه باعتباره جزءاً من البينة الفوقية، وهذه البنية تنقسم بدورها إلى مجتمع مدني ومجتمع سياسي، وظيفة الأول الهيمنة عن طريق الثقافة و الإيدولوجيا، ووظيفة الثاني المتجسد في الدولة السيطرة والإكراه.
فالثنائية التقابلية بين المجتمع المدني والدولة كان الفكر الماركسي سباقاً إلى تأسيسها ولكن لينحاز إلى الدولة على حساب المجتمع المدني الذي هو صنيعة الدولة الهيغلية كما رأى أحمد شكر الصبيحي في كتابه (مستقبل المجتمع المدني في الوطن العربي)، أما الفكر الليبرالي فقد اعتبر أن المجتمع المدني هو بمنزلة الوسيط بين المجتمع بفئاته وشرائحه المختلفة وبين الدولة بهيمنتها الكلية، لذلك اعتبر توكفيل أنه لابد للمجتمع من عين فاحصة ومستقلة، هذه العين الفاحصة ليست سوى مجموعة متعددة من الجمعيات المدنية الدائمة اليقظة والقائمة على التنظيم الذاتي، وهي الضرورة اللازمة لدعم الديمقراطية وتحقيق غايتها في إشراك النسبة الأكبر من المجتمع في مؤسسات الدولة أو مراقبتها وهو لذلك لا يقتصر على الأحزاب أو الهيئات السياسية، وإنما يشتمل بالإضافة إلى تلك على المؤسسات الإنتاجية والطبقات الاجتماعية والمؤسسات الدينية والتعليمية والاتحادات المهنية والنقابات العمالية والروابط والنوادي الثقافية والاجتماعية والعقائد السياسية المختلفة.
وبذلك يكون المجتمع المدني قد دخل في علاقة جدلية مع الدولة ليس بالمفهوم الماركسي وإنما بالصيغة التبادلية، إذ يراقب المجتمع المدني الدولة عن طريق مؤسساته ويضبط توازناتها والدولة ترعى المجتمع المدني وتحافظ على استقراره واستقلاليته، وبذلك تتكون علاقة الشد والجذب التي تحكم اللعبة السياسية، إلا أن الدولة ذات المؤسسات الديمقراطية تستطيع أن ترعى هذا التوازن وتضبطه، أما الدولة الشمولية أو المحكومة بخط عقائدي وحيد لا ترى في المجتمع المدني إلا عاملاً يهدد أمنها واستقرارها لذلك هي تخشاه وتضعه باستمرار تحت السيطرة والمراقبة مما يمنع مؤسسات المجتمع المدني عن القيام بنشاطها المستقل ويحجب عنها دورها الفاعل ذاك.
لقد راج مصطلح المجتمع المدني في الأدبيات السورية، وقدومه المتأخر هذا لم يمنع الالتباس والاضطراب الكبيرين الذين رافقا نشأته وظهوره وهذا متعلق بطبيعة الفكر العربي أولاً في تعامله مع المفاهيم ليس وفق سياقها الطبيعي، وإنما ضمن رغبته الخاصة، مما حول المفهوم إلى صراعٍ على التوظيف السياسي بين مختلف التيارات والحركات السياسية التي رغبت عن طريق تبنيه في مواجهة الدولة الشمولية أو ضد بنى المجتمع التقليدية سواء أكانت دينية أو قبلية أو جهوية، كما وجدنا ذلك في تونس أثناء نهائية العهد البورقيبي في نهاية الثمانينات وكما نشهد حالياً في سوريا، مع حضور مستمر لهذا الصراع في دول أخرى كمصر التي ارتبط تأسيس المفهوم لديها مع اتباع نهج اقتصاد السوق وما يرتبط بذلك من تواز ٍبين الانفتاح السياسي والانفتاح الاقتصادي .
يضاف إلى ذلك أن مفهوم المجتمع المدني ذو جذور غربية ليبرالية في ضوء تطوره الحديث، وهذا ما منع تبيئته بسهولة في الفكر العربي المعاصر المحكوم بإرث ماركسي عريق مما جعل المفهوم يزداد ضبابية وغموضاً، حيث غالباً ما ينتهي دعاة المجتمع المدني إلى إسقاط مفهوم الحزب السياسي عليه، كما أن الدولة العربية تختزن إرثاً احتكارياً من الصعب عليها التنازل عنه، إذ إن هيمنتها على المجال السياسي والاجتماعي والاقتصادي يقتضي منع أي مؤسسات مستقلة ترغب بالنشاط في أحد هذه المجالات لأنها ستصطدم حتماً بتوجه الدولة النزوع إلى الأحادية وغير المستجيب لرغبة المجتمع في ممارسة دوره وفق تصوراته أو مآلاته الخاصة، ولذلك دائماً ما تكون العلاقة بين الدولة العربية والمجتمع المدني علاقة يسودها التوتر والتنازع لتتأسس ثنائية ليست تصالحية كما وجدنا في الفكر الغربي وإنما صراعية تقوم على الإلغاء المتبادل، يسعى كل طرف إلى إثبات وجوده عن طريق توجيه ضربات متتالية إلى خصمه، فهل يمكن لنا الانتقال إلى صيغة متوازنة بين الطرفين، إن ذلك يتعلق لدينا بالدولة أولاً ذلك لأنها رهنت المجتمع بإرادتها وسلطتها، فإذا أرادت لهذا المجتمع أن يمارس دوره وفاعليته فعليها أن تعترف بمؤسساته وهيئاته وأن تترك له هامشاً حتى يؤدي وظيفته من خلاله.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت